هذا الكتاب منشور في دار " زهور المعرفة والبركة "
مقدمة الكتاب
دين الله عقيدة وشريعة: فالعقيدة هي الإيمانيات والمعتقدات، وهذه اتفق عليها كل المرسلين، فما من نبي إلا وقد قال لقومه { اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}(الأعراف : 59)
فعقيدة الأنبياء أجمعين من لدن آدم إلى محمد صلى الله عليهم أجمعين هي توحيد رب العالمين: توحيده رباً خالقاً، وإلهاً معبوداُ، وفعَّالاً لما يريد ، ومالك يوم الدين .
يقوله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ } (الأنبياء:25)
وإذا كان جميع الرسل يتفقون في وجوب الإيمان بالله تعالى وتوحيده وعبادته فإن شرائعهم مختلفة فلكل نبي شرعة ومنهاج .
يقول تعالى : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } (المائدة: 48)
هذا إخبار عن الأمم المختلفة الأديان، باعتبار ما بعث الله به رسله الكرام من الشرائع المختلفة في الأحكام، المتفقة في التوحيد، كما ثبت في صحيح البخاري، عن أبي هريرة أن النبي قال: " نحن معاشر الأنبياء إخوة لعلات ( ) ديننا واحد " يعني بذلك التوحيد، الذي بعث الله به كل رسول أرسله، وضمنه كل كتاب أنزله، كما قال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ } (الأنبياء: 25) وقال تعالى: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } (النحل: 36) ، وأما الشرائع فمختلفة في الأوامر والنواهي، فقد يكون الشيء في هذه الشريعة حراماً ثم يحل في الشريعة الأخرى، وبالعكس، وخفيفًا فيزاد في الشدة في هذه دون هذه. وذلك لما له تعالى في ذلك من الحكمة البالغة، والحجة الدامغة. ( )
إذن أصول الدين التي جاء بها الرسل واحدة، وهي دين الإسلام، قال الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} (آل عمران : 9) وأما فروعه وهي الشرائع فقد تختلف، ورغم اختلافها فإنها تتفق على الحفاظ على الضروريات (الكليات) الخمس: الدين، والعقل، والنفس، والعرض، والمال ، كما تتفق إنها جاءت جميعها لمصلحة العباد تلك المصلحة التي لا بد أن يتوفر فيها شرطان : القطعية ، والكلية .
فالمصلحة التي تعتد بها الأديان السماوية مصلحة قطعية أي مجزوم بتحقيق النفع من ورائها غير مشكوك في ذلك ، كما ينبغي أن يكون هذا النفع نفع عام يشمل سائر الأمة وليس قاصراً على نفع فئة دون سواها .
يقول رشيد رضا : " إن المصلحة تُعتبر في حجج الشرع وأصوله إذا كانت ضرورية قطعية كلية ، فالضرورية : أن تكون إحدى الكليات الخمس التي عليها مدار الشرع ، وهي : حفظ الدين والنفس والعقل والمال والنسب (أي النسل الشرعي ، ويدخل فيه تحريم الزنا واللواط) ، والقطعية : هي المجزوم بحصول المصلحة فيها دون ما كانت مظنونة ، والكلية : ما كانت فائدتها عامة للأمة لا لشخص معين . " ( )
ومما تميزت به الشريعة المحمدية أنها أحلَّت للناس كل الطيبات وحرمت عليهم كل الخبائث ووضعت عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم وشرعت لهم أموراً تتعلق بعباداتهم ومعاملاتهم امتازت باليسر والتخفيف .
{ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } (الأعراف: 157)
يقول الشيخ محمد عبد الله دراز : " يجب أن يفهم - أن تعديل الشريعة المتأخرة للمتقدمة - ليس نقضاً لها ، وإنما وقوفاً بها عند وقتها المناسب وأجلها المقدر .
مثل ذلك كمثل ثلاثة من الأطباء جاء أحدهم إلى الطفل في الطور الأول من حياته، فقصر غذاءه على اللبن ، وجاء الثاني من مرحلته التالية فقرر له طعاماً ليناً ، وطعاماً نشوياً خفيفاً ، وجاء الثالث في المرحلة التي بعدها فأمر له بغذاء قوي كامل.
لا ريب أن ها هنا اعترافاً ضمنيّاً من كل واحد منهم بأن صاحبه كان موفقاً كل التوفيق في علاج الحالة التي عرضت عليه ، نعم إن هناك قواعد صحية عامة في النظافة والتهوية والتدفئة ونحوها ، لا تختلف باختلاف الأسنان فهذه لا تعديل فيها ولا تبديل ، ولا يختلف فيها طب الأطفال والناشئين عن طب الكهول الناضجين .
هكذا الشرائع السماوية ، كلها صدق وعدل في جملتها وتفصيلها ، وكلها يصدق بعضها بعضاً من ألفها إلى يائها ، ولكن هذا التصديق على ضربين : تصديق للقديم مع الإِذن ببقائه واستمراره ، وتصديق له مع إبقائه في حدود ظروفه الماضية " ( )
فالشرائع تختلف في الفروع المناسبة للزمان وللمكان وللبيئة ، أما الأخلاق والعقائد فهي واحدة فمنهج مُوحَّد عند جميع الرسالات ، كما قال سبحانه : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وموسى وعيسى أَنْ أَقِيمُواْ الدين وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ . . } ( الشورى : 13 )
فدين الله واحد ، نزل به جميع الرسل والأنبياء ، فإنْ قلتَ : فما بال قوله تعالى : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً . . } ( المائدة : 48 )
نقول : نعم ، لأن العقائد والأصول هي الثابتة التي لا تتغير : اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ، أمّا المنهج والشريعة الخاصة بالفروع فهي محلُّ التغيير بين الرسل؛ لأنها أمور تتعلق بحركة الحياة ، والحق ، تبارك وتعالى ، يعطي لكل بيئة على لسان رسولها ما يناسبها وما يعالج أمراضها وداءاتها .
والشِّرْعة : هي القانون الذي يحكم حركة حياتك ، أمَّّا الدين فهو الأمر الثابت والموحَّد من قبل الله ، عز وجل ، والذي لا يملك أحد أنْ يُغيِّر فيه حرفاً واحداً .
لذلك ، كانت آفة الأمم أنْ يجعلوا أنفسهم فِرَقاً مختلفة وأحزاباً متباينة ، وهؤلاء الذين قال الله فيهم : { إِنَّ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ }
(الأنعام : 159)
فالله تعالي يقول : { فَرَّقُواْ دِينَهُمْ . . } ولم يقُلْ : فرّقوا شريعتهم ولا منهجهم ، ذلك لأن الدين واحد عند الله ، أمّا المناهج والشرائع فهي مجال الاختلاف على حَسْب ما في الأمة من داءات ، فهؤلاء كانوا يعبدون الأوثان ، وهؤلاء كانوا يُطفِّفون الكيل والميزان ، وهؤلاء كانوا يجحدون نِعَم الله . . الخ .
وآفة المسلمين في التعصُّب الأعمى الذي يُنزِل الأمور الاجتهادية التي ترك الله لعباده فيها حريةً واختياراً منزلةَ الأصول والعقائد التي لا اجتهادَ فيها ، فيتسرَّعون في الحكم على الناس واتهامهم بالكفر لمجرد الاختلاف في وجهات النظر الاجتهادية .
فمن رحمة الله بنا أنْ جعل الأصول واحدة لا خلافَ عليها ، أما الفروع والأمور الاجتهادية التي تتأتّى بالفهم من المجتهد فقد تركها الله لأصحاب الفهم ، { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرسول وإلى أُوْلِي الأمر مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ . . } ( )
وأمة محمد ينطبق عليها ما انطبق على سائر الأمم ينبغي ألا تختلف في أصول العقيدة ، وما هو معلوم من الدين بالضرورة ، قطعي الثبوت والدلالة ، أما الفروع والأمور غير قطعية الثبوت والدلالة فهي مجال اجتهاد ممن توفرت فيهم شروط الاجتهاد ، والأمور الاجتهادية تتغير بتغير الزمان والمكان والحال تماماً مثل شرائع الرسل السابقين بشرط أن يكون هدف هذه الاجتهادات مصلحة الأمة ، وأن تكون ضرورية قطعية كلية ، كما بينا ، وألا تخرج عن مقاصد الشريعة التي يقول فيها ابن القيم : " إن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل فالشريعة عدل الله بين عباده ورحمته بين خلقه وظله في أرضه وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله " ( )
فالأمور التي أحكمها الله باللفظ الصريح المُحْكَم أصول لا خلافَ عليها ولا اجتهادَ فيها ، وأما الأمور التي تركها سبحانه للاجتهاد فيجب أن نحترم فيها اجتهاد الآخرين ، وإلا لو أراد الحق سبحانه لجعل الأمر كله مُحْكماً لا مجالَ فيه لرأي أو اجتهاد .
وهذا منهج الصحابة رضوان الله عليه أجمعين لم يختلفوا أبداً حول أصول العقيدة وإن تنوعت اجتهاداتهم حول فروع الدين ولم ينكر واحد منهم على الآخر اجتهاده ، بل عدُّوا ذلك من وجوه السعة على الأمة .
يقول الشاطبي : " إن الله حَكَمَ بحكمته أن تكون فروع هذه الملة قابلة للأنظار ومجالاً للظنون وقد ثبت عند النظار أن النظريات لا يمكن الاتفاق فيها عادة فالظنِّيات عريقة في إمكان الاختلاف لكن في الفروع دون الأصول وفي الجزئيات دون الكليات فلذلك لا يضر هذا الاختلاف .
يقول تعالى : { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } (هود : 118 )
إنا نقطع بأن الخلاف في مسائل الاجتهاد واقع ممن حصل له محض الرحمة وهم الصحابة ومن اتبعهم بإحسان رضي الله عنهم بحيث لا يصح إدخالهم في قسم المختلفين بوجه فلو كان المخالف منهم في بعض المسائل معدوداً من أهل الاختلاف، ولو بوجه ما ، لم يصح إطلاق القول في حقه : إنه من أهل الرحمة وذلك باطل بإجماع أهل السنة .
أن جماعة من السلف الصالح جعلوا اختلاف الأمة في الفروع ضرباً من ضروب الرحمة وإذا كان من جملة الرحمة فلا يمكن أن يكون صاحبه خارجاً من قسم أهل الرحمة .
وبيان كون الاختلاف المذكور رحمة ما روي عن القاسم بن محمد قال : لقد نفع الله باختلاف أصحاب رسول الله في العمل لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلا رأى أنه في سعة .
وروى ابن وهب عن القاسم أيضاً قال : لقد أعجبني قول عمر بن عبد العزيز : ما أحب أن أصحاب محمد رسول الله لا يختلفون لأنه لو كان قولاً واحداً لكان الناس في ضيق وإنهم أئمة يقتدى بهم فلو أخذ رجل بقول أحدهم كان سنة .
ومعنى هذا أنهم فتحوا للناس باب الاجتهاد وجواز الاختلاف فيه لأنهم لو لم يفتحوه لكان المجتهدون في ضيق لأن مجال الاجتهاد ومجالات الظنون لا تتفق عادة فيضير أهل الاجتهاد مع تكليفهم باتباع ما غلب على ظنونهم مكلفين باتباع خلافهم وهو نوع من تكليف ما لا يطاق وذلك من أعظم الضيق فوسع الله على الأمة بوجود الخلاف الفروعي فيهم فكان فتح باب الأمة للدخول في هذه الرحمة فكيف لا يدخلون في قسم من رحم ربك ؟! فاختلافهم في الفروع كاتفاقهم فيها والحمد لله . ( )
وبعد عصر الصحابة استمر التابعين لهم بإحسان على نفس المنهج ، ولكن بعد ذلك للأسف بدأ التنابذ بين المجتهدين والاتهام بالفسق والتبديع بل وبالكفر أيضاً حتى في الأمور التي يجوز الاختلاف فيها مما فرق المسلمين شيعاً وهذا ما حذر الله تعالى منه .
{ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } (الأنعام: 159)
والآية عامة في كل من فارق دين الله وكان مخالفًا له، فإن الله بعث رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وشرعه واحد لا اختلاف فيه ولا افتراق، فمن اختلف فيه { وَكَانُوا شِيَعًا } أي: فرقًا كأهل الملل والنحل ، وهي الأهواء والضلالات ، فالله قد بَرَّأ رسوله مما هم فيه . ( )
وللأسف الشديد فإن المسلمين في هذا الزمان اختلفوا وتفرقوا شيعاً وأصبحوا {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } (الروم: 32)
فتفرَّق المسلمون في الدين إلى أحزاب وشيع، وجعلوا دينهم أديانًا رغم أنهم متفقون في أصول الدين ، ولكنهم جعلوا الاختلاف على الفروع كالاختلاف على الأصول يوجب التكفير ولم يعد كثير من هذه الجماعات يحاول تفهم موقف الآخر والتعاون معه فيما اتفقوا عليه والتماس الأعذار لهم فيما اختلفوا فيه من الحق .
أخرج البيهقي قول جعفر بن محمد : " إذا بلغك عن أخيك الشيء تنكره فالتمس له عذراً واحداً إلى سبعين عذراً ، فإن أصبته، وإلا، قل لعل له عذراً لا أعرفه." .
وأخرجه ابن عساكر بسنده إلى محمد بن سيرين قوله : " إذا بلغك عن أخيك شيء فالتمس له عذراً ، فإن لم تجد له عذراً فقل لعل له عذراً " .
لم نعد نلتمس للمختلفين معنا أعذاراً بل صرنا نتتبع عورات بعض وسقطات بعض ونشنِّع بها بدلاً من التواصي بالحق والتواصي بالصبر لم نعد نقول " رأيي صواب يحتمل الخطأ ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب " كما أثر عن الأئمة المجتهدين بل ادعت كل فرقة العصمة لرأيها فهو صواب لا يحتمل الخطأ ورأي غيرها خطأ لا يحتمل الصواب ، وهكذا صارت كل فرقة أو جماعة معجبة برأيها زاعمة أن الحق معها وحدها وما عداها باطل ، والله عزَّ وجلَّ أمرنا بالاعتصام بدينه وحرم علينا الفرقة .
{ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا } ( آل عمران : 103)
والقرآن الكريم هو حبل الله المتين الذي ينبغي التمسك به ، وكذلك يجب التمسك بالمعلوم من الدين بالضرورة الذي اتفقت عليها الأمة .
قال رسول الله : "إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هو حَبْلُ اللهِ الْمتِينُ، وهو النور المبين وهُوَ الشِّفَاءُ النَّافِعُ، عِصْمةٌ لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ، ونَجَاةٌ لِمَنِ اتَّبَعَهُ" (رواه الحاكم بسند صحيح)
ولا ينبغي التفرق بسبب الأمور الاجتهادية الخلافية وقد وردت الأحاديثُ المتعددة بالنهي عن التفرق والأمر بالاجتماع والائتلاف .
قال رسول الله : "إنَّ اللهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلاثًا، وَيَسْخَطُ لَكُمْ ثَلاثًا، يَرْضى لَكُمْ: أنْ تَعْبدُوهُ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وأنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا، وأنْ تُنَاصِحُوا مَنْ وَلاهُ اللهُ أمْرَكُمْ؛ وَيَسْخَطُ لَكُمْ ثَلاثًا: قيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وإِضَاعَةَ الْمَالِ" (رواه مسلم ) .
فالمجتهدون المختلفون في كتاب الله بالحق مهديون جميعاً أما المختلفون في كتاب الله بسبب البغي والهوى والحقد والحسد فضالُّون .
{ كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ الله النبيين مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب بالحق لِيَحْكُمَ بَيْنَ الناس فِيمَا اختلفوا فِيهِ وَمَا اختلف فِيهِ إِلاَّ الذين أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى الله الذين آمَنُواْ لِمَا اختلفوا فِيهِ مِنَ الحق بِإِذْنِهِ والله يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } ( البقرة : 213 )
إن الله يهدي الذين آمنوا من كل قوم بالرسول الذي جاء مبشراً ومنذراً وحاملاً منهج الحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه . وبذلك يظل المنهج سائداً إلى أن تمضي فترة طويلة تغفل فيها النفوس ، وتبدأ من خلالها المطامع ويحدث النسيان لمنهج الله ، وتنشأ الأهواء ، فيرسل الله الرسل ليعيدوا الناس إلى المنهج القويم ، واستمر هذا الأمر حتى جاءت رسالة الإسلام خاتمة وبعث الله سيدنا محمداً للدنيا كافة ، وبذلك ضمن لنا الحق سبحانه وتعالى ألا ينشأ خلاف في الأصل؛ لأننا لو كنا سنختلف في أصل العقيدة لجرى علينا ما جرى على الأمم السابقة . هم اختلفوا فأرسل الله لهم رسلاً مبشرين ومنذرين ، لكن أمة محمد وسلم أراد الحق لها منهجاً واضحاً يحميها من الاختلاف في أصل العقيدة . وإن اختلف الناس من أمة محمد فعليهم أن يسترشدوا بالمنهج الحق المتمثل في القرآن والسنة . ( )
وكان النبي إذا قام من الليل يفتتح صلاته قائلاً : " اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ ، فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ اهْدِنِى لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ ، إِنَّكَ تَهْدِى مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ " . ( رَوَاهُ مُسْلِمٌ )
وفي الدعاء المأثور: " اللهم، أرنا الحق حَقّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً ووفّقنا لاجتنابه، ولا تَجْعَلْه ملتبسًا علينا فنضل، واجعلنا للمتقين إمامًا " .
وفي هذا الكتاب نحاول رأب الصدع الذي وقع بين أبناء الأمة الواحدة مبينين ما لا ينبغي الخلاف فيه ، وما يسوغ فيه الاختلاف من خلال عرض لمنهج السلف الصالح في فهم كتاب الله تعالى والسنة الصحيحة في مجالي : العقيدة والشريعة ، مع استعراض للمدارس السلفية المختلفة التي سعت للجمع بين النقل الصحيح والعقل الصريح في الوصول إلى مقاصد الشريعة وتحقيق مصلحة الأمة .
لكن لماذا المدارس السلفية تحديداً ؟
لأنها تمثل رأي السنة والجماعة ونحن هنا في مصر ، كما في معظم العالم الإسلامي ، أتباع هذا المذهب وإن اختلفت مدارسه وتعددت اتجاهاته فإن الاختلاف بين أتباع هذا المذهب اختلاف تنوُّع وليس اختلاف تضاد ، غالباً ، وأن المسلمين المتمسكين بالدين الحريصين على اتباع شرع الله لا يخرج ، عامة ، عن اتباع مدرسة من مدارسه المتعددة : الحنبلية أو الإصلاحية أو الوهابية أو النهضوية أو الإخوانية أو الألبانية ، أو الجهادية ...
وفي هذا الكتاب سوف نتتبع أسباب نشأة كل مدرسة والمنهج الذي انتهجته في التعامل مع النقل والعقل والمصلحة ، وعلاقة كل مدرسة بالسلطة الحاكمة ، ودوافعها للالتزام بهذا المنهج ، والأدلة التي استندت إليها ، وأهم اجتهادات أعلامها وجهادهم ، وما يستفاد من اجتهاداتهم وإنجازاتهم في حياتنا ، وما يؤخذ عليهم ويلتمس لهم فيه العذر ، ولا يلتمس لمقلديهم الآن ، كل هذا في إطار الزمان والمكان والحال الذي عاشوا فيه وتأثروا به واثَّروا فيه ، ولقد اعتمدنا في بحثنا على كتابات أعلام كل مدرسة صحيحة النسب إليهم ومناقشة آراء أنصارهم وأعدائهم فيهم .
والله نسأل أن يساهم هذا الكتاب في توحيد الأمة وائتلافها وقبول رأي الآخر وتفهم دوافعه والتماس الأعذار له والتعاون معه فيما فيه صالح البلاد والعباد .
{ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } ( هود : 88 )
محمد يونس هاشم
7/ 11/ 2012
***
[flash][/flash]