تعتبر الحركات السلفية من أهم الحركات الإسلامية الإصلاحية في عالم اليوم. ولهذه الحركات صوتها الجهوري الداعي إلى تحرير الدين من شوائب العرف وبدع الخلَف.
وقد تمظهرت الحركة السلفية المعاصرة بمظاهر شتى خلال القرن العشرين، من ليبرالية علال الفاسي، إلى عقلانية محمد عبده، إلى جهادية عبد الحميد بن باديس، إلى "آثارية" محب الدين الخطيب. لكن ما تبلور في النهاية تحت مسمى السلفية هو المدرسة النجدية ذات الجذور الحنبلية. وهي التي نركز عليها بالتحليل هنا نظرا لأن صوتها تجاوز حدود مواطنها الأصلية كثيرا، وأثرها امتد إلى كل الآفاق، فغدتْ ظاهرة إسلامية عالمية ..
لقد ظلت الحركة السلفية إلى حين قريب تمثل مخزونا احتياطيا ورصيدا استراتيجيا للحركات الإسلامية السياسية والجهادية، دون أن تتحمل بنفسها عبئا في الجهاد السياسي يتناسب مع حجمها وأثرها العلمي والاجتماعي. فكان أغلب السياسيين والحركيين الإسلاميين يتخذون من علماء السلفية ومنشوراتها مرجعا في كثير من رؤاهم التأصيلية، ويستمدون من الحركة السلفية جانبا مهما من مددهم البشري، دون أن يعولوا كثيرا على الحركة نفسها في الجهاد السياسي، نظرا للموقف المتوجس الذي عبر عنه علماء السلفية وقادتها تجاه العمل السياسي، وبقاء تفكيرهم محصورا بطوق الفكر التاريخي الموروث، الذي تحكم فيه هاجس الخوف من الفتنة، والتشاؤم تجاه جهود الإصلاح السياسي الإسلامي، ولم يعد يرى للعالم والمصلح دورا وراء النصح باللسان ..
لكن يبدو أن الحركة السلفية تمر اليوم بمرحلة مخاض بدأت تغير هذه المعادلة، وتخرج بالفكر السلفي من الطوق الذي وضع فيه نفسه. ولو أدرك دعاة الإسلام ووعاته - من السلفيين وغيرهم من الإسلاميين - كيف يرعون هذا المخاض حق رعايته، لكان له أثر إيجابي كبير على الصحوة المباركة، ولأمد الساحة الإسلامية بدماء جديدة وحيوية متجددة، ولحرر طاقات التدين لدى الملايين من المسلمين، ووضعها في موضعها الصحيح من معركة الجهاد السياسي والحضاري الحالية، بدلا من أن يظل أعداء التمكين للإسلام يوجهونها بغير وعي من أهلها، ويحفرون الخنادق والمسارب لتصريفها حيثما شاءوا ..
لقد كانت العديد من الحركات السلفية تعاني - إلى عهد قريب - من مساوئ منهجية كبيرة في خلفيتها الفكرية وبرامجها العملية، جدير بالمصلحين المسلمين في كل مكان الانتباه إليها، إذا أريد لمخاض الفكر السلفي الحالي أن يسفر عن الثمرات المرجوة. ومن هذه المساوئ :
أولا: تحول مفهوم السلفية عند البعض في العصر الحديث من منهج سليم في المعتقد، مبني على التسليم والتفويض وعدم التكلف.. إلى مذهبية في أمور الفقه والحياة المتغيرة تقيد الفكر والعمل أحيانا. وقد تجلي ذلك في البحث والتنقيب في حياة السلف وأقوال العلماء الأقدمين عن مرجع لأي أمر جديد، والاستغراق في قياسات جزئية لا تلبي حاجات الإسلام في العصر الحاضر، ولا تجيب على الأسئلة الكبيرة والخطيرة التي تواجه المجتمعات الإسلامية اليوم. والنظر بريبة إلى كل اجتهاد جديد لا يجد له مستندا أو سابقة في حياة السلف. وربما يجد المرء جذورا تاريخية لهذا المنزع في تورع بعض العلماء الأقدمين - مثل الإمام أحمد والإمام أبي داود - من القول بالرأي، وإيثارهم الأخذ بالآثار الضعيفة على الرأي والاجتهاد. وهو نوع من عدم الاعتراف ضمنا بحدود النص كان ممكنا في عصرهم الذي لا يختلف كثيرا عن عصور الإسلام الأولى، لكنه غير ممكن في عصرنا الحالي، نظرا للتغيرات العميقة في مسار الحياة وبنية المجتمعات، مما يجعل الاعتراف بأن "النصوص متناهية والحوادث غير متناهية" - كما يقول الأصوليون - أمرا لا محيد عنه.
ثانيا: تحول بعض الجماعات السلفية المعاصرة إلى ما يشبه المدرسة الكلامية التي تطنب في الحديث عن دقائق العقائد دون داع شرعي، وهو ما لا ينسجم مع منهج السلف القائم على البساطة، وتجنب الخوض في تلك المباحث إلا لضرورة. وقد كان جديرا بالسلفيين أن يأخذوا العبرة من المعارك التي مزقت لحمة المجتمع الإسلامي خلال القرون، وأهدرت طاقاته الفكرية والعملية في الجدل حول أمور لا جدوى من الخوض فيها.
لقد صعقتُ وأنا أقرأ للشيخ أبي الحسن الأشعري في كتابه "مقالات الإسلاميين"، كيف انزلق رجل في مثل مؤهلاته الفكرية والعلمية إلى متاهات غريبة بل مضحكة أحيانا، وشر البلية ما يضحك. واسمع إلى الشيخ الأشعري وهو يقول:
- "اختلفوا في الإنسان ما هو، على تسع عشرة مقالة …"
- "اختلف المعتزلة هل المقتول ميت أم لا …؟"
- "واختلفوا هل يجوز رفع ثقل السماوات والأرضين …؟"
- "اختلفوا في القتل هل يضاد الحياة أم لا …؟"
- "اختلفوا في كلام الإنسان، هل هو صوت ؟ على أربع مقالات… "
- "اختلفوا هل يطيق الشيطان حمل ما لا يطيق البشر حمله ؟…" (1) .
وللإنصاف فإن الأشعري لم يكن الوحيد في ذلك، بل توصل العديد من العلماء إلى أن ما انشغلوا به طول أعمارهم لم يكن سوى اختلاف عبارات وجدل لفظي، واسمع إلى قول الإمام الذهبي: "رأيت للأشعري كلمة أعجبتني، وهي ثابتة رواها البيهقي: سمعت أبا حازم العبدوي، سمعت زاهر بن أحمد السرخسي يقول: لما قرب أجل أبي الحسن الأشعري في داري ببغداد، دعاني فأتيته، فقال: اشهدْ علي أني لا أكفر أحدا من أهل القبلة، لأن الكل يشيرون إلى معبود واحد، وإنما هذا اختلاف العبارات. [قال الذهبي] قلت: وبنحو هذا أدين، وكذا كان شيخنا ابن تيمية أواخر أيامه يقول: أنا لا أكفر أحدا من الأمة، ويقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن" فمن لازم الصلوات بوضوء فهو مسلم" (2) . فانظر كيف أن رجالا قضوا أعمارهم في مناقشة مقولات الناس وعقائدهم، رجعوا في النهاية إلى منهج البساطة النبوي: "لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن" فأراحوا أنفسهم وغيرهم.
إنها خسارة كبرى أن يفني الإنسان عمره في معارك، ثم يتوصل في أواخر أيامه إلى أنها لم تكن سوى "اختلاف عبارات"، والخسارة الأكبر من ذلك أن يكون قطاع عريض من المجتمع هو الذي يضيع أعماره في ذلك، ولا ينتبه إلى المتاهات التي وضع نفسه فيها. ولا حل لذلك سوى الرجوع إلى منهج البساطة، والبعد عن التكلف، والاكتفاء من العقائد بالجمل، والتوجه إلى العمل.
ثالثا: عدم التمييز بين كليات العقيدة التي لا اجتهاد فيها، لقطعية الأدلة ثبوتا ودلالة، وبين جزئياتها التي جاءت النصوص فيها محتملة، فللخلاف فيها متسع، والانشغال بها لا يؤدي إلى الحسم فيها علميا، ولا تترتب عليه ثمرة عمليا. فقد اختلف الصحابة رضي الله عنهم في بعض جزئيات العقيدة، مثل رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل ليلة الإسراء، وهل كان الإسراء بالجسم أم بالروح، وتكليم النبي صلى الله عليه وسلم قتلى المشركين في بدر، وتعذيب الميت ببكاء أهله ..الخ ووردت إلينا أقوالهم في ذلك. فكان كل منهم يبدي رأيه بشكل عرَضي، ولا يتوقف عند هذه الأمور، ولا يرى لها أهمية كبيرة، وهو مستغرق في الجهاد لنصرة الدين والتمكين له. فضلا عن أنهم لم يرد عن أي منهم إنكار على مخالفه في مثل هذه الأمور، بل كانت عباراتهم مشحونة بالأدب الجم والدعاء لمخالفيهم، مثل قول عائشة رضي الله عنها: "رحم الله أبا هريرة أساء سمعا فأساء إجابة" (3).
رابعا: جفاء بعض السلفيين في إنكارهم على إخوانهم المسلمين المتلبسين ببعض البدع، دون لطف أو ترفق، أو اعتبار للمآل والثمرات. وكأن مجرد إدانة واقع البدع والخرافات كاف للقضاء عليه. وذلك إشكال عملي على قدر كبير من الأهمية الشرعية: فهل المطلوب شرعا مجرد تسجيل موقف؟ أم السعي إلى تغيير الواقع المنحرف؟ إن قصة أهل "القرية التي كانت حاضرة البحر" الواردة في القرآن الكريم تبين لنا أن السعي لإصلاح المجتمع وتغيير المنكر يستهدف مصلحتين: أولاهما مصلحة للداعي نفسه، وهي الإعذار إلى الله تعالى من خلال القيام بمسوؤليته الشرعية في النصح والإبلاغ، والثانية مصلحة للمدعو، وهي الرجوع عن الباطل إلى الحق. وقد جمع الصالحون من أهل القرية هذين المعنيين في ردهم على الذين أرادوا تثبيط هممهم، فقالوا: "معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون" (4) لكن يبدو أن بعض السلفيين لا يستحضرون الهدف المزدوج هنا، فكأن كل همهم هو تسجيل موقف، وإدانة واقع فقط، وتلك نظرة جزئية لا تفي بالمقصد الشرعي.
خامسا: خلط بعض السلفيين - ضمنا - بين الوحي والتاريخ في المرجعية، جراء نقص في الوعي بالتاريخ لا يميز بين صورته ومعناه، وتقصير في دراسة حياة السلف دراسة استقصائية تلم بكل جوانبها المضيئة والقاتمة، ولا تقف عند سرد المناقب فقط. وذلك هو داء التجسيد الذي تحدثنا عنه أكثر من مرة: تجسيد المبادئ في أشخاص، مهما يكونوا عظماء فهم غير معصومين، وفي وسائل مهما تكن ناجحة، فهي محدودة بحدود الزمان والمكان. والذي يتأمل نصوص الشرع ومصائر الأمم يدرك أن الخلط بين المبادئ والأشخاص، أوالمبادئ والوسائل، من أسوإ الأدواء الفكرية والعملية. لقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم باتباع سنته بإطلاق لأنه معصوم: "عليكم بسنتي"، ثم أمر باتباع سنة الخلفاء من بعده، لكنه قيدها بالرشد: "وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي". وفي ذلك درس ثمين في التمييز بين الشخص والمبدإ، حتى ولو كان ذلك الشخص أحد الخلفاء الراشدين. لذلك لا عجب أن نجد رجلا من أهل البصيرة الشرعية والوعي التاريخي مثل ابن تيمية يقول: "إن ما فعله عثمان وعلي من الاجتهاد - الذى سبقهما بما هو أفضل منه أبو بكر وعمر ودلت النصوص وموافقة جمهور الأمة على رجحانه - وكان سبب افتراق الأمة، لا يؤمر بالإقتداء بهما فيه، إذ ليس ذلك من سنة الخلفاء" (5).
سادسا: الانفعال في الدفاع عن السلف بشكل يهدر قدسية المبادئ، حرصا على مكانة الأشخاص، ويرد الغلو بغلو، مع تعميم وتهويل يساوي في دفاعه بين عثمان وكاتبه مروان، وبين عمار وقاتله أبي الغادية. ويبدو لي أن الشباب السلفي وقع ضحية لمنهج ابن العربي في كتابه "العواصم من القواصم" ثم لمدرسة "التشيع السني" المعاصرة التي يقودها محقق كتاب "العواصم" الشيخ محب الدين الخطيب وتلامذته. ومن المعروف أن هذا الكتاب من الكتب التي وجهت تفكير الملايين، وأثرت على المسار الفكري السلفي كله.
لقد أخذ العديد من المحققين الأقدمين عددا من المساوئ المنهجية على القاضي ابن العربي، ومن ذلك:
? السطوة والشدة والتحامل على المخالفين دون إنصاف (6).
? رد الأحاديث الصحيحة والوقائع الثابتة إذا خالفت رأيه الفقهي أو رؤيته السياسية (7).
? التكلف والتعسف في إثبات الرأي الموافق ونفي الرأي المخالف (
.
? الإطلاق في نفي الأدلة التي لم تصل إلى يده أو لم تستحضرها ذاكرته (9).
? التعميم والتهويل ونقل الإجماع في أمور الخلاف (10).
وقد انتقلتْ هذه المساوئ المنهجية - بكل أسف - إلى الشيخ محب الدين الخطيب، ومنه إلى بعض الجماعات السلفية المعاصرة. فهو يدافع عن الوليد بن عقبة، ومروان بن الحكم، ويزيد بن معاوية، والحجاج بن يوسف، ويقدم ذلك الدفاع في ثوب "السنة والجماعة"، ويرد الأحاديث الثابتة التي لا تنسجم مع الصورة الذهنية التي يدافع عنها، ويقتطع النصوص ويبترها من سياقها دفعا للآراء المخالفة مهما كانت قوة حجتها.. وقد تتبعتُ تلك المجازفات في كتابي: "منهج ابن تيمية في دراسة الخلافات السياسية بين الصحابة" (الذي يصدر قريبا بعون الله) ولا يسمح المقام بسردها هنا، ولكني أستسمح القارئ الكريم في الاستطراد هنا، وإيراد أمثلة موجزة تدل على ما وراءها:
? أنكر ابن العربي أن مروان بن الحكم هو الذي قتل طلحة يوم الجمل وكان في جيشه، وقال : "لم ينقله ثبت" وأضاف الشيخ محب الدين: "هذا الخبر عن طلحة ومروان لقيط لا يعرف أبوه ولا صاحبه .." (11). والواقع أن الأثبات نقلوه وصححوه: فقد أخرجه الحاكم وابن سعد بسند صحيح (12) وقال ابن حجر: "أخرجه أبو القاسم البغوي بسند صحيح عن الجارود بن أبي سبرة" (13) وقال الهيثمي :"رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح" (14).
? أنكر ابن العربي حديث "الحوأب" وقال : "ما كان شيء قط مما ذكرتم، ولا قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الحديث، ولا جرى ذلك الكلام" (15) ثم علق الشيخ محب الدين قائلا: "إن الكلام الذي نسبوه إلى النبي صلى النبي صلى الله عليه وسلم، وزعموا أن عائشة ذكرته عند وصولهم إلى ذلك الماء ليس له موضع في دواوين السنة المعتبرة" (16). والواقع أن الحديث صحيح، وأنه موجود في "دواوين السنة المعتبرة" ومنها مسند الإمام أحمد، ومستدرك الحاكم، وصحيح ابن حبان، ومسند البزار، ومسند أبي يعلى. وقد صححه ابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي، وقال ابن حجر: "سنده على شرط الصحيح" وقال ابن كثير: "وهذا إسناد على شرط الشيخين" وقال الهيثمي في رواية أحمد له : "رجال أحمد رجال الصحيح" (17).
? شكك ابن العربي في أن الآية: "إن جاءكم فاسق بنبإ" واردة في الوليد بن عقبة، ثم علق الشيخ محب الدين بأن نسبة القصة إلى الوليد لا تثبت، وأن الروايات التي وردت بها موقوفة على أناس لم يدركوها، وأن رواتها مجاهيل أوضعفاء، ثم شن حملة شعواء على الذين "ملأوا الدنيا أخبارا مريبة ليس لها قيمة علمية" (18). والواقع أن الحديث أخرجه الإمام أحمد وابن أبي حاتم والطبراني وابن منده وابن مردويه عن الحارث بن أبي ضرار وهو صحابي ووالد أم المؤمنين جويرية، كما أنه أصدق شاهد عيان، إذ هو سيد قبيلة بني المصطلق التي أُرسل إليها الوليد، وهذه غير رواية أم سلمة، وغير الأخبار الموقوفة التي ركز عليها الشيخ الخطيب. وقال السيوطي في الحديث بهذا الطريق "سنده جيد" (19) وقال الهيثمي : "رواه أحمد والطبراني، ورجال أحمد ثقات" (20).
? ادعى الشيخ محب الدين أن عليا بايع الصديق ليلة السقيفة، رغم أن ذلك مخالف لمنطوق حديث عائشة في الصحيحين الذي ورد فيه: " .. وكان لعلي من الناس وجهة حياةَ فاطمة، فلما توفيت استنكر عليٌّ وجوه الناس، فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته، ولم يكن بايع تلك الأشهر …" (20). والعجب أن الشيخ الخطيب نقل جزءا من هذه الفقرة من صحيح البخاري حتى بلغ قوله : "فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته" ثم توقف، ولم يذكر الجملة التالية، لأنها لا تنسجم مع رؤيته المسبقة للأحداث.
? قال ابن العربي في دفاعه عن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان: "وهذا أحمد بن حنبل - على تقشفه وعظيم منزلته في الدين وورعه - قد أدخل عن يزيد بن معاوية في "كتاب الزهد" أنه كان يقول في خطبته: "إذا مرض أحدكم مرضا فأشفى ثم تماثل، فلينظر إلى أفضل عمل عنده فليلزمه، ولينظر إلى أسوإ عمل عنده فليدعه". وهذا يدل على عظيم منزلته عنده حتى يدخله في جملة الزهاد من الصحابة والتابعين الذين يقتدى بقولهم ويرعوى من وعظهم. ونعم! ما أدخله إلا في جملة الصحابة، قبل أن يخرج إلى ذكر التابعين" (21) وابن العربي يرتكب هنا ثلاثة أخطاء فادحة، أولها: أنه اختلط عليه يزيد بن معاوية بن أبي سفيان بيزيد بن معاوية النخَعي التابعي الزاهد الذي ينقل عنه الإمام أحمد وغيره أقوالا كثيرة في الزهد، والثاني أنه يدعي على الإمام أحمد رأيا في يزيد هو أبعد ما يكون عن الحقيقة، واسمع إلى رأي الإمام أحمد في يزيد كما رواه من هم أدرى بفقهه: قال ابن تيمية: "قال صالح بن أحمد [بن حنبل]: قلت لأبي: إن قوما يقولون إنهم يحبون يزيد، فقال:يا بني، وهل يحب يزيد أحد يؤمن بالله واليوم الآخر؟" (22) والثالث: أنه يعطي القارئ الانطباع أن الإمام أحمد يدخل يزيد في الصحابة، وهو الذي ولد بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بعقدين من الزمان ..!!
إن سبب كل هذه المجازفات والمزالق العلمية والمنهجية، هو داء التجسيد، وعدم التمييز بين الدين والتدين، وبين المبادئ والأشخاص، ولذلك لا عجب أن استحال الدفاع عن الصحابة -عند البعض - إلى دفاع عن الملك العضوض والظلم السياسي، وتبرير الجبرية والخنوع. ولا غرابة أن يطالعنا ابن العربي نفسه في غمرة دفاعه عن توريث معاوية السلطة لابنه يزيد، برأي غريب في بيعة الحاكم، يقول فيه: "إن واحدا أو اثنين تنعقد البيعة بهما وتتم، ومن بايع بعد ذلك فهو لازم له، وهو مكره على ذلك شرعا"(23). وقد اضطر ابن تيمية إلى الرد على هذا التأويل السقيم، وتبرئة الإسلام منه. فأي قيمة للمبادئ الإسلامية الجليلة حول الشورى والعدل في القَسْم والحكم أمام هذا الدفاع الأعمى ؟؟
سابعا: انفصال العلم الشرعي عن الواقع المعيش، مما يعمق تهميش الدين في الحياة العامة، ويسهل توظيف حملة العلم الشرعي توظيفا سياسيا لا يخدم الدين. إضافة إلى ما يؤدي إليه ذلك من أخطاء فكرية وفقهية جسيمة. وقد اشتكى محمد إقبال من هذه الغفلة وعدم استيعاب الواقع، وتخلف المدارس والجامعات الإسلامية عن أداء دورها في هذا المضمار، فقال:
ما في مدارسك التي تلهو بـها إلا دروس مغــفَّل وبلـيدِ
سر الدراسة في فؤادك كامـن لو كنت تحسن صرخة التوحيد
ويرجع السبب في ذلك إلى زهد أغلب السلفيين في الثقافة المعاصرة، وتشبثهم بالموقف التقليدي المتوجس من "الغزو الفكري والثقافي"، مما جعلهم بعيدين عن مقتضيات الدين في الواقع المعاصر، فضاعت جهودهم في محاربة بدع الماضي وانحرافاته. ويبدو أن كثيرا من السلفيين لا يزالون يتشبثون برؤية رواد النهضة نهاية القرن التاسع عشر، الذين رأوا أن حاجة المسلم إلى الثقافة المعاصرة لا تتجاوز الجانب العلمي التقني، وأن لا حاجة له في العلوم الإنسانية والمنهجية. وتلك نظرة قاصرة، أدت إلى تخلف الإسلاميين بشكل عام - والسلفيين بشكل خاص - عن المستوى الفكري والمنهجي السائد في حضارة العصر.
إن ما تحتاجه الشعوب الإسلامية اليوم هو العلوم الإنسانية والمنهجية التي تحرر العقل، وتجدد للثقافة الإسلامية شبابها، وتنفض عنها غبار التاريخ، أما العلوم التقنية في مجتمع لا يزال محكوما بقانون الغاب، وليس لكرامة الإنسان فيه أي اعتبار، ففائدتها محدودة، بل قد تستحيل كارثة، وما أخبار التكنلوجيا العسكرية العراقية منا ببعيد ..
لكن هل يعني ذلك براءة الحركات الإسلامية الأخرى من هذه المساوئ المنهجية التي أخذناها على بعض الحركات السلفية، كلا! فالواقع يشهد بغير ذلك. لقد سلمت حركات إسلامية أخرى من بعض هذه المساوئ، لكن أصابها بعضها، وأحيانا بصورة أسوأ مما أصاب الحركات السلفية. فأسْر التاريخ - مثلا - واتخاذه مرجعية ضمنية، أمر موجود في بعض الحركات الإسلامية. والفرق الوحيد هو أن بعض السلفيين يتعصبون لتاريخ الصحابة والتابعين دون تمحيص - بل دون السماح بالتمحيص - وبعض الإسلاميين يتعصبون لرجال الحركة وأشكالها دون تقويم أو مراجعة. والشروح والحواشي الغزيرة التي صدرت حول "رسالة التعاليم" للإمام الشهيد حسن البنا، أو غيرها من رسائله، تكشف لنا عن الجمود السائد، والاستئسار للماضي في بعض الحركات الإسلامية، وإلا فإن الرجل كتب أفكارا واضحة، بلغة مشرقة وبيان عذب، وليس هو بحاجة إلى شرح أو حاشية، بل إلى من يقدر جهده ويراجعه ويتجاوزه ..
والذي يتجاوز حدود المظاهر إلى عمق الظواهر، يدرك أن بعض الحركات "الإسلامية" سلفية الفكر والعمل، رغم نقدها للسلفيين، وأن بعض الحركات "السلفية" هي حركات كلامية، رغم هجومها على المتكلمين.
لقد كان من ثمرات المساوئ المنهجية السائدة في فكر بعض الجماعات السلفية سهولة التوظيف السياسي لهذه الجماعات،جراء تفريطها في الوعي السياسي، وعدم استيعاب أبعاد الواقع وتعقيداته. وقد عبر عن ذلك أحد الظرفاء بأن للسلفيين ثأرا تاريخيا ضد "المسيحيين الأورتوذوكس" ولا شأن لهم بغيرهم من أعداء الأمة من اليهود وغيرهم. وهو يشير بذلك إلى حماس الحركات السلفية للجهاد بالأنفس والأموال ضد الروس في أفغانستان، والصرب في البلقان - وهذا أمر محمود على أية حال - مع انخفاض درجة الحماس على المستوى العملي إذا تعلق الأمر بفلسطين مثلا .. وهو أمر يرجع أساسا إلى التوظيف السياسي من طرف بعض الدول العربية المتلبسة بلبوس السلفية، خدمة منها لتحالفاتها الدولية المشبوهة.
لكن المخاض الفكري والسياسي الذي تعيشه الحركة السلفية الآن جعل هذه المساوئ المنهجية تضمحل تدريجيا - باستثناء جيوب معزولة هنا وهناك - والحمد لله رب العالمين. ولا تخطئ عين الباحث المتجرد محاولة الفكر السلفي الآن الاقتراب من هموم الأمة، والتحرر من أسر التاريخ، والخروج من عباءة بعض الأنظمة الفاسدة، التي طالما ركبت الموجة السلفية لتحقيق مآربها. ولا تخطئ عينه تخفف السلفيين من الجدل التاريخي والكلامي - في العقد الأخير - وتركيزهم على شؤون العصر، وتحديات الحياة الدائبة، وتعطشهم إلى الاستفادة من ثقافة العصر في مجال الفكر السياسي والتنظيمي.. وقد عبر عن ذلك أحد الصحفيين الفرنسيين في مقال له عن الجزائر منذ أعوام، تحدث فيه عن كتاب الشيخ علي بلحاج - فك الله أسره - "فصل الكلام في مواجهة ظلم الحكام"، وجعل عنوان المقال:"حينما يستشهد علي بلحاج بفولتير" Quand Ali Belhaj cite Voltaire.
ويرجع الفضل في هذه التطورات الإيجابية على الساحة السلفية - بعد عناية الله عز وجل بهذه الأمة - إلى ثلاثة عوامل رئيسية:
أولها: تلك الوثبة التي وثبها بعض العلماء والدعاة مطلع التسعينات في الجزيرة العربية، فحرروا الخطاب السلفي لأول مرة من عباءة الأنظمة التي تجعل الشريعة خادمة للسلطة - لا العكس المفترض - وفتحوا أعين الشباب السلفي إلى ضرورة دراسة الواقع واستيعاب مقتضيات الدين في العصر الحاضر.
وثانيها: إمساك بعض الوجوه السلفية بزمام المبادرة السياسية داخل بعض الدول المسلمة، وتعاونهم مع الجماعات الإسلامية الأخرى ومع عامة الشعب بحكمة واستيعاب. وقد برزت هذه الظاهرة أوضح ما تكون في تجربة "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" بالجزائر مطلع التسعينات.
وثالثها: دور التوعية والتنوير الذي تقوم به الجماعات السلفية المغتربة في أوربا وأمريكا، فلهذه الجماعات جهد مشكور في تطوير خطاب سلفي جديد، يتسم بالوعي والنضج. وربما كان للثقافة العملية السائدة في الغرب أثر إيجابي هنا، حيث لا تقاس قيمة المبدإ بصحته النظرية، بل بصلاحيته العملية.
وإذا كان الإيرانيون "سيدركون في النهاية أن لديهم أعداء غير الأمويين" كما قال أحد الكتاب، فإن السلفيين سيدركون في النهاية أن أمامهم - وأمام الإسلام - تحديات أكبر من منازلة المعتزلة والأشاعرة والمرجئة والشيعة والمتصوفة .. فما تحتاجه الصحوة الإسلامية اليوم، هو قوم يعيشون تحديات عصرهم، لا الذين تستعبدهم مقولات الماضي ومصطلحاته، وحروبه ولجاجاته. فتلك ظاهرة أضاعت على القوى الإسلامية الكثير من الوقت والجهد، وكان محمد إقبال قد نبه عليها منذ أمد بعيد، فقال :
ترى النشء يملأ وجه الطريقْ بروحات نِسر وغدْوات بازْ
ومفـتي المدينة وادٍ سحيـقْ يضجُّ بمصطلـحات الحجازْ
ورغم أن جهات عديدة لا تزال حريصة على توسعة الجفوة بين الحركات السلفية وغيرها من الحركات الإسلامية، منعا من تشكيل جبهة إسلامية عريضة في وجه الظلم والاستبداد الضارب بأطنابه، فإن اتجاه تلك التطورات يتجه الآن إلى التعاون والتكامل. لقد بدأ السلفيون يتحررون من داء التنظير المجرد ومتاهات علم الكلام، ويفتحون أعينهم على تحديات الواقع المعاصر وتعقيداته، وبدأ الإسلاميون الحركيون يتحررون من الروح الحزبية ويفتحون صدورهم لكل عامل ولو من خارج التنظيم.
وقد يبقى بعض الاحتكاك الخفيف والتنافس اللين لفترة آتية، على شاكلة تنافس النحاة الكوفيين والبصريين، إلا أن الطرفين بدآ يدركان ما يجمع بينهما، ويتعاملان فيما بينهما بشكل أكثر تواضعا وأقل تبجحا .. وتلك بوادر طيبة تبشر بوحدة في تنوع، وتكامل في تخصص.. نسأل الله أن يوفق الجميع لكل خير.