مقومات الحضارة والرقي :
وحتى لا نخدع أنفسنا وظن أنفسنا - نحن المسلمين – أفضل من الغرب بما حبانا الله تعالى به من نعمة الإسلام التي لا فضل لنا فيها إلا جحود الإسلام جحود عمل وتطبيق لا حجود اعتقاد وتصديق على أحسن تقدير . يجب أن نعرف إن الله أوجب على الإنسان تعمير الكون كما أوجب عليه عبادته جل وعلا ، والغرب قد أخذ في أسباب العلم في تعمير الكون والاستفادة منه فأعطاه الله نصيبه في الدنيا من تقدم مادي وعلمي وظهور على سائر الأمم المتخلفة التي لم تأخذ في أسباب العلم والحضارة لكن لا نصيب لهؤلاء في الآخرة لأن أكثرهم لم يقوموا بمهمة الإنسان الأولى وهي عبادة الله وطاعته ، أما المسلمون فأكثرهم تظاهروا بعبادة الله – شكلا – بأداء بعض العبادات كالصوم والصلاة دون أن تثمر فيهم هذه العبادات حسن الخلق و لا حسن العمل ، فصلوا لكن صلاتهم لم تنههم عن الفحشاء والمنكر فكأنهم لم يصلوا ، وصاموا عن الطعام والشراب و أفطروا على المعاصي والآثام فكأنهم لم يصوموا وأهملوا- أو كادوا- مهمة الإنسان الثانية في هذه الحياة وهي تعمير الكون فتخلفوا حضاريا ، فإذا كان أكثر الغربيين قد أهملوا الدين فشقوا في الدنيا ولم يعرفوا للسعادة ولا الطمأنينة طعما وليس لهم في الآخرة من نصيب فقد أهمل أكثر المسلمين الدنيا فتخلفنا في الدنيا ولم نعرف للتقدم ولا للرقي طريقا وليس لأكثرنا في الدنيا ولا الآخرة من نصيب – إلا من رحم ربي – لأنه لا يدخل الجنة إلى من آمن وعمل الصالحات ومن الأعمال الصالحات تعمير الكون . تأمل معي هذه الآيات المباركات .
{ مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً } ( الإسراء : 18-21 ) .
والآيات شديدة الوضوح فمن يعمل للدنيا فقط يعطيه الله تعالى الدنيا ويصليه في الآخرة جهنم ومن يريد الآخرة لابد له من أمرين : إيمان خالص بالله تعالى لا يشوبه شرك ولا رياء و لا سمعه ، وسعي وعمل الأعمال الصالحة التي " لا تقتصر على الشعائر التعبدية المعروفة من صلاة وزكاة وصيام وحج ، بل تشمل كل حركة وكل عمل ترتقي به الحياة ويسعد به الناس .. وكل عمل نافع يقوم به المسلم ، لخدمة المجتمع ، أو مساعدة أفراده .. " .
يقول الله تعالى في سورة الشورى :
{ مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ }( الشورى : 20 )
يقول عبد الله بن عمر : " واحرث لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا "
يقوله تعالى { هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا } ( هود : 61 )
أي خلقكم من تراب هذه الأرض وأمركم بتعميرها فدخول الألف والسن والتاء على الفعل تدل على طلب القيام بالفعل كما يقول علماء اللغة فـ " استسقى " فلانا أي طلب منه السقي ، و" استطعمه " أي طلب منه أن يطعمه ، و" استعمره " في الأرض أي طلب منه تعميرها وإصلاحها .
ويضرب الله تعالى المثل بذي القرنين ( الإسكندر الأكبر على الراجح من أقوال المؤرخين المعاصرين ) ذالك القائد المؤمن – وقيل أنه نبي - الذي جمع بين الصلاح والإصلاح ، يذكر الله تعالى لنا قصته لتكون مثالا لكل من يريد ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة يقول تعالى :
{ وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا فَأَتْبَعَ سَبَبًا ) ( الكهف : 83- 85 )
يبين الله تعالى بجلاء ووضوح لا يقبل الشك ولا الجدال سر قوة وتمكين ذي القرنين في الأرض وهو أخذه في أسباب العلم والحضارة والتقدم والرقي .
{وآتيناه من كل شيء سببا}، قال ابن عباس: يعني علماً (وبه قال مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والسُّدي وقتادة والضحّاك وغيرهم) .
لقد أعطى الله تعالى ذي القرنين العلم فأخذ في أسبابه وأخذ العلم عن علماء كل بلد فتحها بعد أن تعلم لغاتهم " كان لا يعرف قوما إلا كلمهم بلسانهم " وبالعلم والإيمان ملك ذو القرنين الأرض .
سئل النبي عن ذي القرنين فقال: (ملك مسح الأرض من تحتها بالأسباب) .
ويؤكد القرآن أخذ ذي القرنين بأسباب العلم ثلاث مرات { فَأَتْبَعَ سَبَبًا } ( الكهف : 85 ) { ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا } ( الكهف : 89 ) { ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا } ( الكهف : 92 ) .
إذن التمكين في الأرض لا يكون إلا بالأخذ في أسباب العلم الكوني : فيزياء وكيمياء وفلك ورياضيات وهندسة وراثية وعلوم تكنولوجية و .. و في أسباب الحضارة من ونظام وتعاون وإخلاص ونظافة .. فإذا أراد الإنسان الجمع بين سعادة الدارين فعليه أن يضيف إلى إصلاح الدنيا صحة الإيمان بالله بل عليه أولا أن يؤمن بالله تعالى ويؤدي ما فترضه عليه وينتهي عما نهى عنه ثم يترجم هذا الإيمان بالعمل الصالح في الدنيا فإن فعل ذلك فقد استحق وعد الله بالاستخلاف في الأرض وتمكين الدين له وإبداله من بعد خوفه أمنا .
{ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}(النور:55)
وفي سورة الروم يضرب لنا الله تعالى المثل بالأمم القوية الأشداء أهلها الذين استطاعوا أن يثيروا الأرض ويعمروها لكنهم كفروا بما جاءتهم به رسولهم من الهدى ودين الحق فأعطاهم الله نصيبهم في الدنيا : القوة والمنعة والعلو وكافأهم بسعيهم في الدنيا فلاحا وما كان الله ليظلمهم في الدنيا لكنهم ظلموا أنفسهم في الآخرة بترك عبادة الله والأمثلة في التاريخ كثيرة فالحضارة اليونانية والرومانية والفارسية والأوربية الحديثة والأمريكية المعاصرة رغم عدم إيمان أكثرهم إلا أن الله مكن لهم في الدنيا ما داموا مصلحين للدنيا فإن تفشى فيهم الفساد والظلم دمر الله عليهم .
{ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } ( الروم : 9 )
ويقول تعالى في سورة هود أنه سبحانه لن يعاقب الكفار في الدنيا بسبب كفرهم بل سيعطيهم أجرهم فيها بصلاحهم فيها أما الآخرة فالنار مثوى الكافرين ، أما الأمم التي عاقبها الله تعالى في الدنيا فكان بسبب الإفساد في الأرض لا بسبب الشرك وحده .
{ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ } ( القصص : 58-61 )
{ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ } ( هود : 117 )
" قوله تعالى: "وما كان ربك ليهلك القرى" أي أهل القرى. "بظلم" أي بشرك وكفر. "وأهلها مصلحون" أي فيما بينهم في تعاطي الحقوق؛ أي لم يكن ليهلكهم بالكفر وحده حتى ينضاف إليه الفساد، كما أهلك قوم شعيب ببخس المكيال والميزان، وقوم لوط باللواط؛ ودل هذا على أن المعاصي أقرب إلى عذاب الاستئصال في الدنيا من الشرك، وإن كان عذاب الشرك في الآخرة أصعب. وفي صحيح الترمذي من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: (إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده).
فالظلم والطغيان والإفساد في الأرض هو سبب هلاك الأمم وليس الكفر وحده والتاريخ يشهد بذلك فأهل الغرب أكثرهم كافرون بالله تعالى لكنهم في الدنيا مصلحون أو على الأقل أفضل من المسلمين في إصلاح الدنيا وتعميرها فلم يهلكهم الله تعالى في الدنيا إنما أهلكنا نحن بهم بسبب ظلم أكثرنا وعدم إصلاحهم في الدنيا " إن الحضارة علم وتعاون وفهم ونحن لن نتحرك خطوة إلى الأمام إلا إذا كانت لدينا هذه الأربعة والعلم ليس شهادة بل معرفة وثيقة ومؤكدة .. مئات الشهادات عندنا خسائر قومية لأنها لا تساوي الورق الذي طبعت عليه والواحدة منهن – أي من الأجانب الغربيين – إذا جلست للعمل انصرفت إليه بقلبها وعقلها وإحساسها جميعا لأنها تريد أن تعمل أحسن ما يستطيع البشر وأقل من هذا لا يرضيها لأنها متحضرة وهي تتعاون مع زميلاتها خطوة خطوة لأن الحضارة تعاون والإنسان الفرد لا يمثل حضارة ولا ينهض بحضارة ، ومصيبة تاريخنا أننا لا نعرف التعاون .. ولو أن الناس عندنا لديهم أدنى إدراك لمعنى العمل المشترك لما كان الأتوبيس عندنا على هذه الصورة المزرية سألني سائل : ماذا يخسر أولئك الناس لو وقفوا طابورا و تركوا الخارج يخرج ثم دخلوا بالدور بنظام وقيمة ؟ قلت : هؤلاء يا أخي ناس غير متحضرين ، إنهم همج ، وإخواننا هؤلاء هم أبناء عمومة الآخرين الذين يربون البلهارسيا في أجسادهم ، وهم أخوة العمال الذين أنتجوا ما يقدر بستة بلايين من الجنيهات بضائع لا يشتريها أحد لأنها لا تصلح للاستعمال والذين أنتجوها يعملون دائما دون تركيز ودون التفات ودون اكتراث إنهم غير متحضرين إنهم همج .. صدقني .. همج ! .. مثل هذا المستوى البدائي الذي نعيش فيه لا يمكن أن نصل إلى مستوى العلم والإنتاج الذي حدثتك عنه – يقصد الإنتاج الغربي – لأن هذا كله ثمرة العمل الجماعي ، وأنا عشت في أوساط العلم في أوروبا وأمريكا وأعرف كيف يتعاملون ، لا احد يعمل منفردا أبدا وكما أن السيارة التي حدثتك عنها هي ثمرة عمل ألف يد وألف عين فكذلك كل قطعة فيها فإن العلم لا يزرع ولا يوجد على الأرض ولا يستخرج من البحار كاللؤلؤ إنما هو ثمرة العمل الجماعي وقد وصل العلم في عصرنا إلى مستويات أشك معها في أن سنستطيع اللحاق بهم فيها إلا إذا تغير فينا كل شيء فنحن بدائيون أنانيون ، ونحن ما زلنا نهيم على وجوهنا ضائعين في مجتمعنا هذا الذي هو في الحقيقة غابة . يقول لك الجامعيون لقد أعددنا مكانا لكل حاصل على الثانوية العامة ، وماذا سيفعل الطالب في هذا المكان ؟ لا شيء . إن أستاذه نفسه بعيد جدا عن فكرة العلم في عصرنا ، والمسالة كلها خطف ، الطالب يخطف ، والأستاذ يخطف ، وقرود الغابة مطلقة على وجهها " .
ولو أن الغرب المتحضر وصله الإسلام بشكل صحيح ، ولو أن المسلمين لم يكونوا صورة شائهه له ، ولو كف إعلامه عن تشويهه لدخل الغرب المتحضر في دين الله أفواجنا ، ولتخلى عن كل المعتقدات التي يدين بها سواء أكانت سماوية محرفة أو دنيوية مؤلفة .