هل أعاد التاريخ نفسه
مقارنة بين أول ثورة قامت بها مصر وآخر ثورة
يقول علماء المصريات : " عندما خلق الخالق الكون ، شكَّل دنيا ثابتة في مظهرها ووظائفها ، وأن كل شيء بداخل هذا العالم مطابقة للخطة الإلهية الموضوعة ، ولا حاجة إلى إدخال أي تحسين في أية مرحلة تالية ، وقد أطلق المصريون القدماء كلمة " ماعت " على توازن العالم كله ، وتعايش جميع عناصره في انسجام ، وعلى تماسك وحداته الذي لا غنى عنه للمحافظة على الأجسام المخلوقة .
كان هذا التفاعل بين القوى هو الذي ضمن نظام الكون بدءاً من مكوناته الأساسية : كالحركات السماوية ،وانتظام الظواهر الموسمية ،وتعاقب الزمن، وشروق شمس جديدة في كل صباح .
إلى أقل هذه الظواهر والمجتمع الإنساني نفسه ، والعلاقات الودية بين الأحياء ، والمراعاة الدينية لكل الطرق التي سنَّها الإله للأشياء ، واحترامها ، تلك القواعد التي اشْتُقَّتْ منها عدالة العلاقات الاجتماعية والحياة الخلقية . وهكذا كانت "ماعت" هي كُلاًّ من النظام الكوني ، والأخلاقي اللذين يعملان معاً في جميع الظروف تبعاً لوجهة نظر الإنسان عن نظام الكون . "
ولقد ظلَّ حكام مصر في الدولة القديمة ( الأسرات من 1-6 ) يطبِّقون شريعة ماعت هذه ويلتزمون بها فتحققت لمصر الوحدة والاستقرار والأمن والسلام وعاش الناس حياة هادئة مطمئنة مما يسَّر تقدماً اقتصاديّاً وثقافيَّا ومعماريّاً ، وازدهرت الحضارة وبلغت منزلة لم تبلغها أمة من الأمم ، وليس أدل على ذلك من أهرام الجيزة الخالدة ، والآثار الأخرى البديعة التي أنشئت إبان تلك الفترة .
ثم بدأ العصر الوسيط ( الأسرات من 7- 10) حيث تخلَّى حكام مصر عن شريعة ماعت فساد الانحلال والتفكك الاجتماعي وشبَّت نيران الحرب الأهلية ، ويبدأ هذا العصر بالملك " بيبي الثاني" الذي تولى عرش مصر وعمره ست سنوات ، ومات وقد قارب المائة ، وليس من شك أن مثل هذا الحكم الطويل لرجل واحد يحمل بين طياته التفكك والانحلال ، وفي آخر أيام حكمه تبدلت حال الحكومة فدب فيها الضعف ، وقلت هيبتها وفي نفس الوقت زاد سلطان حكام الأقاليم وزادت ثروتهم ، وقل ولاؤهم لصاحب العرش فزادت الأعباء على كاهل الحكومة وتعطلت المصالح واشتدت المظالم مما أدى إلى قيام ثورة ، ثورة على كل شيء ثورة على الظلم وعلى الحُكْم وحتى على الآلهة .
وليت هذه الثورة ناهضت استبداد الحاكم ، وفساد حكمه إنما للأسف كانت ثورة على العقيدة المصرية أيضاً تلك العقيدة التي وحَّد الفراعنة المؤمنون بها البلاد ، وأسسوا على تعاليمها الحضارة ، ونَعِمَ جميع المصريين في ظلها بالعدل والمساواة والاستقرار والرخاء .
لقد كانت الثورة على بيبي الثاني وابنه ثورة شيوعية فوضوية لا دين لها يهديها ، ولا قانون لها يحكمها ، ولا قوة عاقلة تحميها .
يقول العلامة سليم حسن : " كان موقف الحكومة المصرية في هذا العهد يرثى له ، حتى أن الشعب انتهز هذه الفرصة وقام بثورة اجتماعية طاحنة تشبه الثورة التي قام بها البلاشفة "
ويؤكد د. سيد كريم على شيوعية الثورة المصرية الأولى فيقول : " قامت الثورة الشيوعية الأولى في التاريخ في مصر القديمة عام 2280 ق. م في أعقاب الأسرة السادسة وأطلق عليها الفراعنة اسم " ثورة الرعاع " .
بدأت الثورة بمجموعة من المنشورات والشعارات كانت الأولى من نوعها في العالم منها " الأرض لمن زرعها ، والحرفة لمن احترفها ، وليس للسماء وصاية على الأرض " .
ثم قام الرعاع بالهجوم على مخازن الحكومة فقتلوا حراسها ، واستولوا على ما كان فيها ، ونهبوا الأسواق والتجارة ، واستولوا على المساكن ونهبوا محتوياتها ، واعتدوا على السكان وطردوا الموظفين من دواوين الحكومة .
فُتِحَت أبواب السجون ليخرج اللصوص والمجرمون للاشتراك في الثورة ، وأُغْلَقت المحاكم بعدما طاردوا القضاة ، وأُغْلقت المعابد ، وشُتِّت الكهنة ، وأُغْلقت معابدها معاهد العلم ، واعتقل العلماء والمثقفون ، وسادت الفوضى وفلت الزمام من أيدي قادة الثورة نفسها .
وأكبر جناية ارتكبتها هذه الثورة في حق الحضارة المصرية هو اعتدائها على المتون السرية ووثائق أسرار المعرفة التي كانت تحتفظ بها المخازن السرية بالمعابد والأهرامات بالإضافة إلى تزوير تراث ما خلفه من سبقهم من ملوك الأسرة السادسة من أمجاد وحاولوا نسبتها إلى أنفسهم بإزالة أسماء مؤسسيها وإطلاق أسمائهم عليها .
لعل القارئ العزيز قد لاحظ أن هناك تشابهاً ، في كثير من الأحداث ، بين الثورة المصرية الأولى ، وثورة 25 يناير الأخيرة ! ويتجلى ذلك التشابه في :
1- طول حكم الحاكمَيْن ، وفساد أحوال البلاد في آخر عهدهما .
2- توريث الحاكمَيْن نجليهما حكم البلاد من بعدهما .
3- تبدل أحوال الحكومة في آخر عهد الحاكمَيْن فدب فيها الوهن واستشرى فيها الفساد ، وقلت هيبتها في نفوس الناس وزاد سخطهم عليها .
4- توحُّش رجال النظام وازدياد ثروتهم وتقديمهم مصالحهم الشخصية الدنيا على مصالح الوطن العليا .
5- كثرة الإقطاعات الممنوحة للمقربين من الحاكم .
6- شيوع التوريث في المناصب ، وحرمان الأكفاء من تولي المناصب الرفيعة .
7- تراجع دور مصر الإقليمي ، وهوانها في عين شانئيها ، وطمع أعداؤها فيها .
8- اعتقال الأحرار ، وتلفيق التهم للمعارضين .
9- إقصاء المنادين بالإصلاح ، ومحاربة الكفاءات الوطنية المخلصة ذوي العلم والإيمان .
10- عدم محاسبة الفاسدين المفسدين من المسئولين وأصحاب النفوذ .
11- عدم جدوى النصح المخلص مع الحاكمَيْن ؛ فقد ذهبت نصائح الحكيم "أيبور" لبيبي الثاني سدى ، وقد تجاهل مبارك جميع نصائح كبار المفكرين والسياسيين المعارضين ، وأصحاب الرأي المخلصين ، وعندما سئل مبارك عن البرلمان الشعبي قال ساخراً : " خليهم يتسلوا " !
12- بدء الثورتين بإصدار منشورات تتضمن أهداف الثورة ومطالبها .
13- نجاح الثورتين في إسقاط النظام الحاكم ورجاله .
14- انتشار الفوضى والإرهاب وكثرة السلب والنهب نتيجة الانفلات الأمني ؛ ففتحت السجون ، وخربت أقسام الشرطة ، وأُخرج المحكوم عليهم منها والمتهمون، ونُهبت المحال والمخازن ، وقطعت الطرق ، ونهبت كثير من البيوت ، ولم يعد الإنسان آمناً على نفسه ، ولا على رزقه . وعاش الناس في فزع وخوف شديدين .
15- تزييف التاريخ وتشويه صورة النظام السابق بالكلية ، ومحو اسمه من فوق منجزاته واستبدال أسماء الثوار باسمه .
16- الاعتداء على الآثار المصرية القديمة وسرقة بعضها ، والاستيلاء على كثير من وثائق الدولة والقيام بإتلافها وإحراقها .
كثيرة تلك التشابهات بين الثورتين المصريتين : الأولى والأخيرة ، لكن هناك اختلافات جوهرية بين الثورتين فإن كانت الثورة الأولى ثورة جياع وهمج ورعاع فإن ثورة 25 يناير ثورة شباب مثقف نقي ، كما أن أعمال السلب والنهب وفتح السجون وأقسام الشرطة وإخراج المساجين وسرقة الأسلحة وإشاعة الفوضى ، وإرهاب الناس ، والاعتداء على المتحف المصري ونهب بعض محتوياته ، وحرق وثائق أمن الدولة كل هذه الأعمال شباب الثورة الحقيقيون منها براء إنما تنسب هذه الأعمال إلى فلول النظام السابق ، وبلطجيته ، ورعاع الناس وسفلتهم ممن ينتهزون الفرص للقيام بالسلب والنهب والاعتداء على الناس وممتلكاتهم .
كما أن الثورة 25 يناير لم تكن أبداً ثورة شيوعية قامت لمحاربة الأديان ، وإسقاط مؤسساته ، والتنكيل بعلمائه ، وهدم دور العبادة بل على العكس تماماً فثوار 25 يناير الحقيقيون شباب صالح يعرف ربه ويؤدي فرائضه ، ولقد ثار من أجل الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وهي مبادئ نادت بها الأديان السماوية ، كما أن كثيراً من الذي شاركوا في الثورة منذ يومها الأول ينتمون إلى جماعات دينية مختلفة .
أنا لا أقول ذلك جزافاً أو رجماً بالغيب ؛ فقد خالطت شباب التحرير في الأيام الأولى للثورة وأشهد أنهم من خير شباب مصر أحسبهم كذلك ولا أزكي على الله أحداً .
وهذا لا يمنع اختلافي مع بعضهم ولهذا حديث آخر .