صفقة جلعاد شليط والوهم المتبدد
قراءة في خطاب خالد مشعل بمناسبة صفقة تبادل الأسرى
يوم 18 أكتوبر 2011 ألقى خالد مشعل خطاباً حمساويّاً حماسياً قال فيه " اليوم نسجل صفحة عظيمة ، صفحة مضيئة في تاريخ فلسطين وفي تاريخ الأمة ، صنعت أولاً ، ببطولة السواعد المقاتلة التي انتصرت على الجيش الإسرائيلي في عملية الوهم المتبدد ، وصنعت بعد ذلك في العقل الأمني للمقاومة في غزة الذي عتَّم على كل التكنولوجيا الإسرائيلية الأمنية فأجبرت على أن تدفع ثمن الصفقة ، إعجاز ، والله إن إخفاء جلعاد شاليط خمس سنوات في غزة إعجاز تفخر به الأمة .. "
وبداية لا بد أن أقرر أن إسرائيل تمثل سرطاناً في جسد الأمة العربية يجب استئصاله أو على الأقل يجب تقليص ضرره وإيقاف انتشاره وهذا واجب على كل عربي ، فجهاد إسرائيل فرض عين إن لم يكن على العرب عامة فعلى الأقل على الفلسطينيين خاصة ، ولكن يكيف يكون الجهاد ؟
يقول تعالى : { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مّن قُوَّةٍ }( الأنفال:60)
وللقوة أسباب يجب أن تتوفر لها لكي تتحقق منها :
1- وحدة الأمة وعدم اختلاف وتنازع أبنائها ، وذلك يتطلب أن تكون الأمة موحدة في الهدف والغاية والوسيلة .
2- إعداد الإنسان ، وتوفير مقومات الحياة له . فيجب أن تأكل الأمة مما تزرع ، وتلبس مما تصنع ، وتستخدم مما نتج ، ولا تكون عالة على غيرها فضلاً على أن تعيش عالة على عدوها .
3- إعداد العدة التي يجب أن تكون بالتسليح المناسب لعدة العدو . ويتطلب هذا حداثة في العلوم الطبيعية ، والرياضية ، والتكنولوجية ، ... وكل علم يحتاج التسليح الحديث المتطور إليه .
4- حسن التدريب ، وإعداد الخطط ، ومعرفة العدو ، وردود أفعاله ...
5- اختيار الوقت المناسب لبدء القتال حيث تكون الأمة في أحسن حالاتها والعدو في أسوأ حالاته ، والمناخ العام مهيأ لشن الهجوم .
كل هذا يجب أن يُعَد قبل بدء المعركة ، وكل هذا من أسباب القوة التي أمرنا الله تعالى أن نعدها لإرهاب عدو الله وعدونا .
يقول الشيخ الشعراوي : " : الإعداد هو أمر يسبق المعارك ، وكيف يتم الإعداد ؟
أن نقوم بإعداد الأجسام ، والأجسام تحتاج إلى مقومات الحياة . وأن نقوم بإعداد العُدُد . والعدد تحتاج إلى بحث في عناصر الأرض ، وبحث في الصناعات المختلفة لنختار الأفضل منها . وكل عمليات الإعداد تطلب من الإنسان البحث والصنعة .
ويقول صحاب تفسير المنار : " اتِّقَاءُ الْفَشَلِ وَالْخِذْلانِ فِي الْقِتَالِ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ نِظَامِ الْحَرْبِ وَفُنُونِهَا ، وَإِتْقَانِ آلاتِهَا وَأَسْلِحَتِهَا الَّتِي ارْتَقَتْ فِي هَذَا الْعَصْرِ ارْتِقَاءً عَجِيبًا ، كَمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى أَسْبَابِ الْقُوَّةِ الْمَعْنَوِيَّةِ مِنِ اجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ وَاتِّحَادِ الأُمَّةِ وَالصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ وَاحْتِسَابِ الأَجْرِ عِنْدَهُ . وَلا قُوَّةَ مَعَ الْخِلافِ وَالنِّزَاعِ وَالتَّفَرُّقِ وَالِانْقِسَامِ ."
فكيف استعدت حماس لحرب إسرائيل في عملية الوهم المتبدد ؟
لم تقم حماس بأي إعداد للقوة قبل إقدامها على عملية " الوهم المتبدد " 25/06/2006م والتي أسفرت عن مقتل جنديين إسرائيليين، واختطاف ثالث " جلعاد شاليط " الذي طالبت حماسُ إسرائيلَ بالإفراج الفوري عن كافة الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية في مقابل تسليمه !!
وعندما أقدمت حماس على هذه العملية فلم تكن الجبهة الداخلية موحدة وكان الصراع بين فتح وحماس أو بين السلطة الرئاسية والحكومة التنفيذية على أشده .
ولم تكن حماس تملك من مقومات الدولة الحقيقية شيئاً فهي تحصل من إسرائيل عدوتها التي تريد إزالتها من الوجود على كل مقومات حياتها من ماء وكهرباء وغاز وعائدات ضرائب ، وفرص عمل و...
ولم تكن حماس تملك عدة قتال مساوية أو مقاربة لآلة إسرائيل الحربية فهي لا تملك إلا كذا صاروخ محلى الصنع أو مهرب من سوريا قصير المدى .
ولم تكن حماس تعرف من العلوم الحديثة إلا اسمها ومن التكنولوجيا المتطورة إلا رسمها .
ولم تحسب حماس أي حساب لردود أفعال إسرائيل التي كانت تعد العدة لتدمير غزة بعدما فازت حماس في الانتخابات التشريعية وشكلت حكومة رفضت الاعتراف بـ"إسرائيل" ، والاتفاقات السياسية الموقعة معها ، ونزع سلاح المقاومة .
ولم تختر حماس الوقت المناسب لبدء فقد كان العالم الغربي كله رافضاً لحماس ومقاطعاً لها ، كما أن غالبية الدول العربية رافضة لسياسة حماس وإن كانت لا تصرح بهذا جهرة . في مقابل ذلك فإن إسرائيل قد استطاعت أن تهيئ العالم لهجوم مبرر على قطاع غزة دفاعاً عن نفسها من إرهاب حماس ، ولقد أهدت لها حماس فرصة ثمينة للإقدام على اقتحام غزة ذلك الاقتحام الذي تعترف حماس ببشاعته فتقول : " إن تقرير وزارة الصحة الفلسطينية يشير إلى ارتفاع 232 شهيداً وإصابة 1327 جريحاً فلسطينياً . "
هذا بالإضافة إلى اعتقال مئات الفلسطينيين ، والأخطر من هذا أن عملية الوهم المتبدد قد بددت وهم التفاهم بين فتح وحماس ، وبدأ الصدام المسلح بينها مما أدى إلى ما يشبه الحرب الأهلية .
وكانت نهايته الدراماتيكية هي استيلاء حماس بالقوة علي السلطة في القطاع, وفصلت غزة عن الضفة في انقلاب عسكري عنيف أطاح بمؤسسات السلطة الوطنية الفلسطينية, وطرد كوادر فتح خارج غزة, الأمر الذي أدى إلى تطويح مشروع قيام الدولة الفلسطينية المستقلة إلى أمد زمني مجهول, وربما تكون نتيجته تصفيه القضية الفلسطينية .
وفي 19 ديسمبر 2008 قامت حماس بإطلاق عدة صواريخ على مناطق في جنوب إسرائيل دون التنسيق مع السلطة الفلسطينية ولا سائر الفصائل .
وانتهزت إسرائيل هذه الفرصة لتنتقم ليس من حماس فقط إنما من كل القطاع فشنت حرباً ضروساً يوم 27 ديسمبر 2008 على قطاع غزة استمرت 22 يوماً أسفرت عن استشهاد أكثر من 1400 فلسطينياً وإصابة أكثر من 4300 شخص .
هذا غير الدمار الشامل الذي حل بقطاع غزة هذه الحرب ، ونتيجة الحصار المفروض على المعابر .
ومع ذلك يقول خالد مشعل : " عاد الجيش الصهيوني خائراً مذعورا لا عاد بنصر ولا عاد بجلعاد شاليط ولا أوقف الصواريخ ولم يستطع أن يفرض شروطه علينا ونجحت هذه الصفقة يوم أن صبر أهل الضفة فاعتقل منهم المئات واستبيحت الضفة أمنيا واعتقل الوزراء والنواب وقيادات العمل الوطني الفلسطيني من كل الاتجاهات هذا الصبر في غزة والضفة وصبر شعبنا في الداخل والخارج هو الذي أتي بهذا الإنجاز ثم أتي هذا الإنجاز بنموذج التفاوض الذي قدمته حركة حماس "
وهذا الإنجاز الذي دفع الشعب الفلسطيني ثمنه غالياً باعتراف مشعل لم يكن تحرير فلسطين من الكيان الصهيوني ، ولا حتى إقامة دولة فلسطين على حدود 4 يونيو 67 ، ولا تحرير كل الأسرى وإنما تمثل الإنجاز في نجاح حماس في عقد صفقة مع إسرائيل برعاية مصرية تم فيها مبادلة 1027 أسير فلسطيني بشاليط .
يقول خالد مشعل : " اليوم إسرائيل شعرت أن هناك مقاومة فلسطينية صمدت أمامها في 2008 ، 2009 بل وهزمتها وعمَّت عنها كل الأخبار . "
إي نصر هذا ؟! وبأي مقياس تقيس حماس به الانتصار والهزيمة ؟
يقول خالد مشعل : " والقصة مش قصة - والله - كم شهيد سقط في غزة أو الضفة لا ، مقابل " ولم يستطع خالد مشعل أن يكمل الجملة وما عساه أن يقول هل يستطيع أن يقول إن أكثر من 1600 شهيد ، وأكثر من 5600 جريح غير مئات الأسرى راحوا مقابل أسر جلعاد شاليط !!
لكن لا عجب فهذا هو المنطق العربي ، لا قيمة فيه للفرد ولا للأرض القيمة الوحيدة هي للزعيم .
ألم ينتصر عبد الناصر بهذا المنطق في يونيو 1967 لأن العدو أراد بحربه إسقاط نظامه أما وقد تمسك الشعب به وخيَّب ظن أمريكا وإسرائيل فالنصر إذن كان حليف الزعيم !!!
ألم ينتصر حزب الله على إسرائيل في 2006 رغم أن هذه الحرب أدت إلى مقتل أكثر من 1100 لبنانيّاً وإصابة أكثر من 4400 ، وتدمير لبنان تدميراً شبه كامل !!
هذا هو المنطق الزعامة العربية يا سادة ، بقاء الحكام في السلطة هو مقياس الانتصار وإن أبيدت شعوبهم .
أما آن لهذا المنطق أن يتغير قي ظل الربيع العربي ، أما آن لنا أن تكون مهمة الحاكم العربي الدفاع عن كل فرد من أبناء شعبه وتأمينه وتوفير حاجاته الأساسية كما تفعل الشعوب المتقدمة . لا إلقائه في المهالك من أجل زعامة أو منافسة على السلطة .
فكم نفس أزهقها حكام العرب بدخولهم في حروب فاشلة لم يعدُّو فيها ما استطاعوا من قوة .
ولكن خالد مشعل لا يتذكر إلا حديث فك العاني : " إننا نستند إلى حديث الشريف " فكوا العاني وأطعموا الجائع وعودوا المريض " .
فماذا عن 5300 عاني يعاني في السجون الإسرائيلية ؟ وماذا عن مئات الآلاف من المحتاجين يحتاجون إلى الأمن والحاجات الأساسية ؟ وماذا عن مئات الألوف من المرض والمصابين يصبون إلى العلاج والرعاية ؟
وماذا عن الصراع بين حماس وفتح الذي صرع القضية الفلسطينية ؟
وماذا عن إعداد القوة قبل لقاء العدو ؟
يقول صاحب تفسير المنار: " الأَصْلِ الَّذِي قَرَّرَهُ الإسْلامُ مِنْ مُقَاتَلَتِهِمْ بِمِثْلِ مَا يُقَاتِلُونَنَا بِهِ ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مُبَارَاتُهُمْ فِي هَذَا الْعَصْرِ بِعَمَلِ الْبَنَادِقِ ، وَالْمَدَافِعِ ، وَالسُّفُنِ الْبَحْرِيَّةِ وَالْبَرِّيَّةِ وَالْهَوَائِيَّةِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْفُنُونِ ، وَالْعُدَدِ الْعَسْكَرِيَّةِ ، وَيَتَوَقَّفُ ذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى الْبَرَاعَةِ فِي الْعُلُومِ الرِّيَاضِيَّةِ ، وَالطَّبِيعِيَّةِ ، فَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ ; لأَنَّ الْوَاجِبَ مِنْ الاسْتِعْدَادِ الْعَسْكَرِيِّ لا يَتِمُّ إِلا بِهَا .
َقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِخَالِدٍ يَوْمَ حَرْبِ الْيَمَامَةِ : حَارِبْهُمْ بِمِثْلِ مَا يُحَارِبُونَكَ بِهِ ، السَّيْفُ بِالسَّيْفِ وَالرُّمْحُ بِالرُّمْحِ " ، وَهَذِهِ كَلِمَةٌ جَلِيلَةٌ ، فَالْقَوْلُ وَعَمَلُ النَّبِيِّ وَأَصْحَابِهِ كُلُّ ذَلِكَ دَالٌّ عَلَى أَنَّ الاسْتِعْدَادَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِ حَالِ الْعَدُوِّ وَقُوَّتِهِ ."