تعريف فقه الواقع
هو علم يبحث في فقه الأحوال المعاصرة، من العوامل المؤثرة في المجتمعات، والقوى المهيمنة على الدول، والأفكار الموجهة لزعزعة العقيدة، والسبل المشروعة لحماية الأمة ورقيها في الحاضر والمستقبل.
أساس هذا العلم
يتصور بعض طلاب العلم أن فقه الواقع علم جديد، وثقافة حديثة، وهذا قصور في التصور، ونقص في العلم؛ لأن أساسه في القرآن، والسنة، وكلام سلف الأمة. ففي سورة الأنعام يقول - سبحانه وتعالى-: (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ)( ) [ سورة الأنعام آية: 55 ] ومن فقه الواقع استبانة سبيل المجرمين، ومعرفة أهدافهم ومخططاتهم
لهذا جاءت كثير من الآيات مفصلة ومبينة سبيل أعداء الله، وفاضحة لمآربهم وغاياتهم، ولنأخذ سورة واحدة تؤكد لنا هذه الحقيقة وتجليها: إنها سورة التوبة، ومن أسمائها (الفاضحة) لأنها فضحت المنافقين، وكشفت عن خداعهم وتضليلهم ومؤامراتهم، يقول -سبحانه وتعالى-: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا)( ) [سورة التوبة، آية: 49] (وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ)( ) [سورة التوبة آية: 56] (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ)( ) [سورة التوبة آية: 62] (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ)( ) الآية [ سورة التوبة آية: 67 ].
(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)( ) [ سورة التوبة آية: 107 ] وهذه الآية من أعظم الآيات التي فضحت المنافقين، وكشفت دسائسهم، واستغلالهم لهذا الدين بإقامة المساجد تلبيسا وخداعا، وسترا لمؤامراتهم.
ونجد في ختام هذه السورة: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ)( ) [ سورة التوبة آية: 127 ].
ونجد كذلك في سورة البقرة، والأحزاب، والمنافقون ما يكشف عن المنافقين وغاياتهم.
أما اليهود والنصارى والمشركون فالآيات التي عن واقعهم كثيرة جدا، وهي من صميم فقه الواقع الذي يبينه الله -جل وعلا- لنبيه وللمؤمنين، ولنأخذ بعض الآيات في ذلك قال سبحانه: ) وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ)( ) [ سورة البقرة آية: 76 ]. (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ)( ) [سورة البقرة: 120]. (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)( ) [سورة البقرة آية: 146].
وهذه الآيات تكشف واقع اليهود، وفساد طويتهم، ونجد في النصارى قوله تعالى: (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)( ) [سورة المائدة آية: 14].
وعن المشركين يقول سبحانه: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)( ) [ سورة التوبة آية: 19 ]. وقال قبلها: (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ)( ) [سورة التوبة آية: 17].
ونجد في بيان علاقة المنافقين بأهل الكتاب: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ)( ) الآيات [سورة الحشر آية: 11]. والآيات في هذا الباب كثيرة جدا، وما ذكرته للإشارة والاستدلال على عناية القرآن بفقه الواقع، لا للحصر.
أما السنة فقد حفلت بكثير من الوقائع والشواهد، التي تدل على عناية المصطفى صلى الله عليه وسلم بهذا الجانب.
فها نحن نراه صلى الله عليه وسلم يوجه المستضعفين من صحابته بالهجرة إلى الحبشة، وهذا برهان ساطع على معرفته صلى الله عليه وسلم بما يدور حوله، وأحوال الأمم المعاصرة له.
فلماذا لم يرسل الصحابة إلى فارس أو الروم أو غيرهم؟ ولماذا اختار الحبشة؟ يبين ذلك صلى الله عليه وسلم بقوله: " إن فيها ملكا لا يظلم عنده أحد " ( ).
وها نحن نرى المرحلية في الدعوة ملائمة للواقع الذي تعيشه، ونجده صلى الله عليه وسلم يختار المدينة مكانا لهجرته، ويتعامل مع جميع الأطراف الموجودة فيها وحولها بأسلوب يناسب أحوالها. وعندما أرسل صلى الله عليه وسلم معاذا إلى اليمن قال له: " إنك تأتي قوما أهل كتاب " ( ) وهذا من إدراكه صلى الله عليه وسلم واقع كل بلد وما يحتاج إليه؛ ولذلك قال له: " فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله.... " ( ) الحديث.
وكذلك نلمس عمق هذا العلم في غزواته، ورسائله إلى الأمم والملوك والقبائل. وكذلك يبرز هذا الجانب في استقباله للوفود، وتعامله معهم، وإنـزاله للناس منازلهم.
إن لم يكن هذا هو من الذروة في فقه الواقع فأين يكون؟ (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً)( ) [سورة الأحزاب، آية: 21].
ومن أقوى الأدلة على عناية الكتاب والسنة بفقه الواقع قصة فارس والروم، وفيها يبرز اهتمام الصحابة أيضا بهذا العلم، وإدراكهم لأهميته، والقصة كما وردت في سورة الروم، أنه قامت حرب بين فارس والروم، فانتصر الفرس على الروم، وهنا حزن المسلمون لهذا الأمر، فقام أبو بكر رضي الله عنه وراهن أحد المشركين على انتصار الروم على الفرس، وحدد لذلك أجلا قصيرا.
فأخبر أبو بكر رضي الله عنه الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك فأقره، وأمره بزيادة مدة الأجل إلى عشر سنين، ففعل أبو بكر، وجاءت الآيات في سورة الروم (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)( ) [سورة الروم الآيات: 1 ـ 5]
ويبرز فقه الواقع في هذه القصة فيما يلي:
1ـ أن القصة بين فريقين كافرين، ومع ذلك خلدها القرآن الكريم؛ لأثرها المباشر على حياة المسلمين.
2ـ اهتمام المسلمين بهذه القضية، وحزنهم عندما انتصرت فارس، وفرحهم عندما انتصر الروم.
3ـ معايشة أبى بكر لهذه الأحداث، والمراهنة على انتصار الروم.
4ـ إقرار الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي بكر بل طلبه أن يمد في الأجل لأن (البضع) إلى عشر سنوات. والقضية ليست قضية سياسية بحتة كما يتصور كثير من الناس، بل هي قضية مبدأ، فانتصار الملحدين على أهل الكتاب يؤثر على المسلمين، وانتصار أهل الكتاب دليل على انتصار الحق على الباطل، وهو مؤذن بانتصار المسلمين على أهل الكتاب بعد ذلك؛ لأنهم هم الذين على الحق.
وهنا يأتي السؤال الذي أوجهه إلى طلاب العلم فأقول: إنني أرى أن روسيا وأمريكا تمثلان دور فارس والروم في الماضي، فهل كنا ندرك ما كان يجري بين الدولتين أيام الحرب الباردة؟ أو أننا نقول: هذه أمور لا تعنينا. ثم هل أدركنا وحللنا مرحلة الوفاق بعد ذلك، وأثر هذا الأمر على المسلمين؟ أو أننا نقول: الكفر ملة واحدة.
وعندما انهارت المنظومة الشيوعية، هل فرحنا بذلك فرحا عمليا، مبنيا على النتائج الحالية، وتوقع المستقبل المشرق بإذن الله؟ ثم هل نحن ندرس الآن قضية الصراع بين القوى؟ وأنه بعد أن كان بين الشرق والغرب، ثم انتصر الغرب على الشرق، سيكون الصراع بين الغرب النصراني والشرق المسلم.
وهنا سينتصر الإسلام في النهاية -بإذن الله- كما انتصر الروم النصارى على الفرس الوثنيين، ثم انتصر الإسلام على أهل الكتاب، وكذلك فقد انتصر الغرب النصراني على الشرق الملحد، وسينتصر المسلمون -بإذن الله- على أهل الكتاب: (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)( ) [سورة يوسف آية: 21].
وأخيرا: فبعد أن بينت أسس هذا العلم في الكتاب والسنة أشير إلى اهتمام السلف به، فهذا أبو بكر -كما بينت في قصة فارس والروم- يعني بهذه القضية عناية خاصة، وها هم الصحابة يتابعون هذه الأحداث متابعة ذات معنى، ويحزنون ويفرحون، بناء على ما يعلمونه من تأثير للهزيمة والانتصار في حياة المسلمين حاضرا ومستقبلا.
وعمر بن الخطاب يقول: "لست بالخب ولا الخب يخدعني" لست بالماكر المخادع -وحاشاه عن ذلك- ولكنه لا يمكن أن يخدعه الماكر المراوغ.
فالمسلم كيس فطن، واع مدرك لما حوله.
والعلماء من سلف هذه الأمة كانوا خير مثال لحسن تعاملهم مع واقعهم، فالإمام أحمد بن حنبل في فتنة القول بخلق القرآن، وشيخ الإسلام بن تيمية في موقفه من التتار، وابن القيم فيما دونه عن فقه الواقع وحاجة المفتي إليه، والعز بن عبد السلام في مواقفه الخالدة من النصارى ومن حالفهم.
كما أن الشيخ عبد الرحمن بن سعدي ذكر في تفسيره أن فقه المسلم لواقعه من لوازم معرفة (لا إله إلا الله) على معناها الصحيح، ولم لا ؟ وبفقه الواقع يكتمل مبدأ تحقيق الولاء والبراء، وهذا المبدأ أصل من أصول عقيدة التوحيد التي جاءت بها (لا إله إلا الله).
وبعد:
ومن خلال ما سبق تبين لنا أساس هذا العلم، وأهميته من خلال الكتاب والسنة وفقه سلف الأمة، فحري بالعلماء خصوصا، وطلاب العلم عموما أن يدركوا هذه الحقيقة، ويتعاملوا معها تحقيقا لمفهوم (لا إله إلا الله)، والتزاما بمنهج الكتاب والسنة، واستبانة لسبيل المجرمين.