بين السنة والبدعة:.
وأما القول بأن تحديد مدة الأمير أو رئيس الدولة إحداث أمر مبتدع في الإسلام ومن الثابت بالنص والإجماع أن كل بدعة ضلالة.
فإن المقدمة الثانية مسلمة وهي أن كل بدعة ضلالة ولكن لا بد من إثبات المقدمة الأولى وهي أن هذا الأمر داخل في نطاق البدعة الشرعية.
ومن الخطأ البين بل من الضلال البعيد أن يظن أن الإسلام يقاوم كل جديد مستحدث بإدخاله تحت اسم البدعة.
فالواقع أن البدعة ما كان في أمر الدين المحض مثل العقائد والعبادات وما يلحق بها أما ما كان من أمور الحياة المتغيرة من العادات والأعراف والأوضاع الإدارية والاجتماعية والثقافية والسياسية و نحوها فليس هذا من البدعة في شيء بل هذا يدخل فيما سماه العلماء (المصلحة المرسلة) كما بين ذلك الإمام الشاطبي في كتابه (الاعتصام) وعلى هذا فعل الصحابة أمورًا لم يفعلها النبي مثل كتابة المصحف وتدوين الدواوين وفرض الخراج واتخاذ دار للسجن.
وفعل التابعون أمورًا لم يفعلها الصحابة مثل: سك النقود وتنظيم البريد وغيرهما.
وابتكر المسلمون أشياء لم تكن في عهد النبوة ولا الصحابة مثل: تدوين العلوم التي كانت معروفة من قبل وابتكار علوم جديدة مثل علوم الدين واللغة والعلوم الإنسانية المختلفة.
وفي الحديث الصحيح: (من سن سنة حسنة في الإسلام فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة).
وقد سجل التاريخ لثاني الراشدين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مجموعة غير قليلة من الأوليات التي ذكروها في مناقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكلها من ابتكارات عمر وقد وافقه عليها الصحابة رضي الله عنهم فعدت من المجمع عليه.
(4) موضع الخطأ في الاستدلال المطلق بالسيرة على الأحكام:.
ومن أسباب الخطأ والاضطراب في الفقه السياسي: الخلط بين السنة والسيرة في الاحتجاج.
السنة مصدر للتشريع والتوجيه في الإسلام بجوار القرآن الكريم.
فالقرآن هو الأصل والأساس والسنة هي البيان والتفسير والتطبيق.
ولكن الخطأ الذي يقع فيه البعض هنا أنه يضع السيرة موضع السنة ويستدل بأحداث السيرة النبوية على الإلزام كما يستدل بالسنة والقرآن.
والسيرة ليست مرادفة للسنة فمن السيرة لا يدخل ما في التشريع ولا صلة له به ولهذا لم يدخل الأصوليون السيرة في تعريف السنة بل قالوا: السنة ما صدر عن النبي من قول أو فعل أو تقرير ولم يجعلوا منها السيرة.
أما المحدثون فهم الذين أضافوا إلى القول والفعل والتقرير الوصف الخَلْقي والخُلقي والسيرة لأنهم يجمعون كل ما يتعلق به مما له علاقة بالتشريع وما لا علاقة له به فيرون من حياته ما قبل البعثة من المولد والرضاع والنشأة والشباب والزواج . . الخ ويروون أوصافه الخِلْقية والخُلُقية ويروون كل ما يتصل بحياته ووفاته.
المهم أن بعض الفصائل الإسلامية تتخذ من السيرة دليلاً مطلقًا على الأحكام وتعتبرها ملزمة لكل المسلمين.
وهنا ملاحظتان مهمتان:.
الأولى: أن في السيرة كثيرًا من الوقائع والأحداث مروية بغير السند المتصل الصحيح؛ فقد كانوا يتساهلون في رواية السيرة ما لا يتساهلون في رواية الأحاديث المتعلقة بالأحكام وأمور الحلال والحرام.
والثانية: أن السيرة تمثل الجانب العملي من حياة النبي أي تمثل قسم الفعل من السنة غالبًا.
والفعل لا يدل على الوجوب والإلزام وحده إنما يدل على الجواز فقط أما الوجوب فلا بد له من دليل آخر.
صحيح أننا مطالبون بالاقتداء بسنة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ :.
(لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا). (الأحزاب: 21).
ولكن الآية تدل على استحباب التأسي والاقتداء به لا على وجوبه.
على أن اتخاذ الأسوة من سيرته إنما يكون في الأخلاق والقيم والمواقف العامة لا في المواقف التفصيلية.
فليس من الضروري أن نقتدي به بالبدء بالدعوة سرًا إذا كان الجهر ميسورًا ومأذونا به.
وليس من الضروري أن نهاجر كما هاجر إذا لم يكن لدينا ضرورة للهجرة بأن كنا آمنين في أوطاننا متمكنين من تبليغ دعوتنا.
ولهذا لم تعد الهجرة إلى المدينة فرضًا على كل مسلم بعد فتح مكة كما كانت من قبل ولهذا قال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ :.
(لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا) (متفق عليه وهو مروي عن عدد من الصحابة ) أي لا هجرة إلى المدينة وإن بقيت الهجرة من كل أرض لا يتمكن المسلم من إقامة دينه فيها.
وليس من الضروري أن نطلب النصرة من أصحاب السلطة والقوة كما طلبها الرسول الكريم من بعض القبائل فاستجاب له الأوس والخزرج إذ لم يعد ذلك أسلوبًا مجديًا في عصرنا.
وليس من الضروري أن نظل ثلاثة عشر عامًا نغرس العقيدة وندعو إليها لأننا اليوم نعيش بين مسلمين يؤمنون بأن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله فليسوا محتاجين إلى أن تعلمهم العقيدة مثل هذه المدة.
وإذا أهتممنا اليوم بالعدالة الاجتماعية أو الشورى والحرية أو بالقدس والمسجد الأقصى أو بالجهاد ضد أعداء الأمة فليس ذلك مخالفة للهدي النبوي الذي لم يهتم بهذه الأمور إلا في المدينة لأن الرسول كان في مكة في مجتمع جاهلي مشرك بالله مكذب برسالة محمد فكانت المعركة الأولى معه حول التوحيد والرسالة.
بخلاف مجتمعنا اليوم فقد آمن بالله ربًا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولاً وإن كان فيه ما فيه من المعصية والانحراف عن شرع الله ..