من المكلف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟
وللإجابة عن هذا السؤال نقول إن جميع المسلمين مكلفون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفي هذا يقول تعالى { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ } ( آل عمران : 110 ) لكن الناس متفاوتون في معرفتهم بأمور الدين فكيف يطالب بالقيام به كل الناس ؟
إن هناك أمورا في الدين لا يجهلها مسلم تسمى معلوم من الدين بالضرورة كمعرفة أن الصلاة فريضة وأن الخمر محرمة وأن الحج يكون إلى بيت الله الحرام في أشهر معلومات وهذه الأمور يمكن أن يدعو الناس جميعا إليها فإذا كان هناك إنسان لا يصلي بغير عذر فهل يحتاج هذا الإنسان إلى عالم من علماء الدين ليقول له صل ؟ بالطبع لا إنما هذا واجب على كل مسلم له به علاقة ، وإذا كان إنسان يكذب فهل يحتاج إلى عالم دين ليقول له أن الكذب الحرام بالطبع لا إنما يمكن أن ينصحه بترك الكذب أي مسلم ، أما الأمور الخلافية والمباحث العلمية فلا يجب أن يتصدى للإفتاء فيها إلا العلماء وإذا اختلفوا جاز للعامة الأخذ بما تيسر من أقوالهم لكن يجب أن يراعي المسلم أمورا مهمة حال دعوته غيره منها :
1- أن تكون هذه الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة .
2- أن يتخير المكان والزمان المناسبين للدعوة .
3- أن يكون من الملتزمين بما يدعو غيره له .
4- ألا يتعدى حدود علمه فيتكلم في الدين بغير علم .
لكن الذي يحدث أن الواعظ يبدأ بالأمور العامة ثم ينسى قدره ويغتر بعلمه فيخوض في الحديث فيما لا علم له به ويفتي الناس ويترك مجال المعلوم من الدين بالضرورة إلى الإفتاء في دقائق الأمور والذي يغريه بذلك إقبال الناس عليه وتجمعهم حوله فيتوهم في نفسه العلم ومن كثرة ثناء الناس عليه يسيطر عليه إحساس بأنه أصبح عالما ويقول للناس استفتوني أفتكم وهنا يكون البلاء وتحدث الكارثة ، ويدلي بدلوه في أمور الدين والدنيا والسياسة والحرب والسلام والاقتصاد وهذه آفة كل الوعاظ والدعاة ولم يسلم منهم إلا القليل النادر الذي اكتفي بالأمر بما هو معلوم من الدين بالضرورة والناس وعامة الناس لا تستطيع التفرقة بين الواعظ و العالم فكلاهما يتكلم في الدين وكلاهما يستشهد بالقرآن والحديث الشريف وربما يكون الواعظ أكثر مصداقية من العالم بما يلتزم به من مظاهر الدين كإرسال اللحية ولبس الجلباب الأبيض ، كما أن الناس – ويا للعجب – يشدهم من يخرج على الحاكم وينتقد المسئولين فيظنون أنه لا يخشى في الله لومة لائم حبذا لو قبض عليه عدة مرات أمن الدولة فإنه يصبح من العلماء الكبار المشهورين الذين تخشي الدولة على نفسها من أقوالهم !! ولم يسلم من هذه الفتنة وهذا الإغراء إلا النادر من أمثال " عمرو خالد " الذي رغم الشهرة الكبيرة التي حققها ورغم تآلف القلوب عليه ورغم إغراء الفتوى للدعاة إلا أنه التزم بحدود الواعظ ولم يتجرأ على الإفتاء كغيره ممن لا يبلغون مبلغه من العلم ولا يتكلم إلا فيما هو معلوم من الدين بالضرورة ولا يتصدى للإفتاء مما أغضب الأذكياء من أعداء الدين الدعوة فمنعوه من الوعظ والتعليم وتركوا غيره من المتشدقين المتنطعين لأنهم يخدمون أهدافهم في تبغيض الناس في الدين وتنفيرهم منه بعكس عمرو خالد الذي يدخل للناس من باب حب الله وليس من باب التخويف والتزمت .
أما الدعوة الخاصة والإفتاء فتكون لعلماء الدين الكبار الذين شهد لهم العلماء بالعلم إذ ليس من قال الناس أنه عالم صار عالما إذ أن العامة لا يحكمون على العلماء إنما الذي يحكم على العلماء أندادهم لكن الآفة من تجمع حوله بعض العامة ظن نفسه عالما بغض النظر عن قول العلماء فيه ، وهذا لا يحدث إلا في مجال الدعوة – وهو أخطر مجال – فإن من يحصل على أي شهادة علمية إنما الذي يمنحه إياها هم أساتذته ومعلموه وليس طلابه ومريدوه . و مع تعد أمور الحياة كثرة المستحدثات فإن أمر الفتوى لا يترك حتى لآحاد العلماء إنما يجب أن يناط بالأمور الدقيقة المؤثرة في حياة الناس كحكم إيداع الأموال في البنوك ، التبرع بالأعضاء الجسم ، و من يفجر نفسه لقتل أعداء بلاده ، وغيرها من الأمور التي يجب أن تدرس من كافة جوانبها ويتناقش فيها كبار العلماء في شكل مجامع للبحوث الإسلامية كالمجلس الأعلى للشئون الإسلامية ، ودار الإفتاء ، ويجب أن يتم الاتفاق على ما يفتى به الناس خاصة في مواضيع ذات تأثير بالغ على حياة الفرد والمجتمع وأن يلتزم العلماء بقرار اللجان المختصة ، وخيرا فعل المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بجمع فتاوى الأزهر الشريف في مائة عام على اسطوانة ليزر ، و يسر طريقة البحث فيها ، وأنا شخصيا أراحتني هذه الفتاوى من الجدل العقيم فما يكاد يبدأ جدل حول قضية من القضايا الخلافية حتى أسارع بطبع نص فتوى الأزهر الشريف في هذه القضية لحسم الخلاف .
وإذا طبقنا منهج ميزان الحق الذي تحدثنا عنه على منهج النصيين الحرفيين أو الظاهريين البدو فإننا نجد أنهم يهملون حاجات بعض مكونات الإنسان .
فإذا كان العقل وهو من أعظم نعم الله على الإنسان وهو ما يُميَز به الحق من الباطل والصواب من الخطأ وهو وسيلة المعرفة فيدرك الجزئي كما يدرك المعاني العامة لا نصيب له عند النصيين الحرفيين فقد أهملوه وحرموه من التفكير والاجتهاد ،
وكما أهمل النصيون الحرفيون حاسة الذوق القلبية التي تجعل الإنسان يستمتع بالفنون الراقية المهذبة للنفس والمحركة للعواطف النبيلة كالشعر الذي قال النبي فيه في الحديث الصحيح المتفق عليه " إن من البيان لسحرا " ، ومما جعله يخلع برده على كعب ابن زهير عندما أنشده قصيدته " بانت سعاد " فعفا عنه وكان قد أهدر دمه بل من فرط إعجابه خلع عليه برده . روى البخاري " إن من الشعر حكمة "
أو كالغناء غير الفاحش ولا البذيء الذي يروح عن النفس و ويحرك المشاعر النبيلة خاصة في المناسبات السعيدة فقد سمع النبي الغناء وأمر عائشة بأن تكون هديتها لعروس ذات قرابة لها مغنيا يغني لها . وكذلك سمع بعض الصحابة الغناء ولم يروا فيه بأسا خاصة في المناسبات السعيدة كالأعياد و الزواج .
لكن ليس كل غناء مباح فالغناء المباح له شروط بيناها في غير هذا الموضع .
كما أنهم بالنسبة للروح التي غذاؤها معرفة الله وعبادته والأنس به فإنهم حولوا الكلام عن العقيدة إلى حروب كلامية و تحدثوا في موضوعات ما تحدث فيها السلف كحديثهم المستفيض في الذات والصفات لدرجة أنهم ألفوا فيه كتبا ، وبدلا من غرس الإيمان في قلوب الناس شغلوهم بهذه الأبحاث الكلامية التي لا طائل من ورائها إلا إضاعة الوقت و إضعاف الجهد ، وتمزيق الأمة .
أما بالنسبة للعبادة فإن منهج النصيين الحرفيين يركز على التفاصيل الدقيقة الفرعية في أداء العبادة أكثر من تركيزه على الحكمة من هذه العبادة فيركزون مثلا على الهيئة المصلي أكثر من خشوعه في الصلاة ، و يتشددوا غاية التشدد في التمسك بحرفية أداء العبادة – حسب مذهبهم – وهم ليسوا كذلك فيما يتعلق بثمرة هذه العبادات وهي حسن الخلق في التعامل مع الناس ، وإخلاص العمل في التعامل مع المعاش ، ورقة القلب كثمرة من ثمرات العبادات ،...
كما أن مفهومهم الضيق للعبادة الذي يقتصر على أركان الإسلام والذكر والدعاء وقراءة القرآن فقط قد أثر على المهمة الثانية للإنسان كخليفة وهو استعمار الأرض { يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ } ( هود : 61 )
كذلك استبدال الحفظ والتكرار بالفقه والتدبر والتفكر .
فركزوا في فهم الدين على الحفظ وترديد مقولات السابقين دون فقه للدين ولا للدنيا فكأني بهم لم تصبهم دعوة النبي لابن عباس فقد " دَعا له النبيّ فقال: اللهم فَقِّهْه في الدِين وعَلِّمه التأوِيل " ( رواه البخاري وأحمد وابن حبان والحاكم ) .
ولم تصبهم دعوته لعلماء أمته " من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين " ( متفق عليه ) .
إن الناظر في تاريخ الأمم والشعوب يجد أن التطور والتقدم والتحضر قرين الاجتهاد والإبداع والحرية المسئولة أما فترات الضعف والتخلف فقرينة التقليد ، والاتباع وتقديس التراث إن المدقق في الحضارة العربية يجد أنها حضارة مبدعة متفردة فعلماء تجتهد و فرسان تجاهد ، وعمال تعمل وفلاحون يزرعون كانت حضارة علم وعمل وهداية قادت العالم ألف سنة وشارك في صنعها علماء الدين إلى جانب غيرهم من علماء العلوم الطبيعية ، الرياضيات ، والفلاسفة ، والشعراء .